اليمنيون وربيع محمد.. قداسة موقف

منير الشامي

 

في مثل هذه الأيّام من كُـلّ عام يكسو الربيع المحمدي يمن الإيمَان بحلته اليمانية الخضراء الفريدة في نوعها والمتطابقة مع مناسبتها الغالية بروحانيتها المتجددة وبعظمة صاحبها سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ- وعظمة أنواره وكأن يمن الإيمَان والحكمة يستمد نوره من أنواره الشريفة.

 

وَمن هذه الأنوار المحمدية تتلألأ مدنُه وأريافُه حتى يبدو بكل ما عليه وكأنه مرآة عظيمة تعكس نوره الزاهي المفعم بمحبة كُـلّ شيء فيه لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ-، وكما لو كان يحاكيه ويقلده حينما كان يتزين بأحب حلة إلى قلبه الشريف حلته الخضراء اليمانية.

 

فبالتزامن مع بداية العشر الأواخر من شهر صفر من كُـلّ عام يستنفر اليمنيون بطاقتهم القصوى وبذروة النشاط والحيوية فوق تراب وطنهم ويتحولون إلى خلايا نحل لا تعرف الكلل ولا الملل، ويندفعون جميعاً للمشاركة كلٌّ بما يستطيع في نسج وحياكة حلة الربيع المحمدي السنوية التي اعتادوا أن يكسوها ويلبسوها وطنهم ويزينوّه بها بكل ما عليه ابتداءً من المنازل والجوامع والمآذن والشوارع وانتهاء بقمم الجبال وسفوحها، وجوانب الطرقات ومنعطفاتها، وفي نفس الوقت يباشرون إحياء مجالسهم وتنفيذ فعاليات لا تتوقف على مدار اليوم صباحاً عصراً ومساء، جل فقراتها تهدف إلى التزود من نور النبي وهديه وسننه وفي سبيل الاقتدَاء والتأسّي به والسير على نهجه ودربه ويتخلل فقرات أنشطتهم المحمدية الذكر والصلوات في الساحات والجوامع والمدارس والصالات رسميًّا وشعبيًّا وتشارك فيها كُـلّ فئاته العمرية وبمختلف مكوناته وأطيافه بلا استثناء.

 

وكل ذلك على طريقِ الاستعدادِ لاستقبال أعظم مناسباتهم السنوية وأحبها إلى قلوبهم وأغلاها في قرارة نفوسهم وإحيَائها بالشكل الذي يليق بعظمتها وعظمة صاحبها صلوات الله عليه وعلى آله، ألا وهي ذكرى المولد النبوي الشريف، ولا تكاد تحل ليلة هذه الذكرى إلا وقد أصبح اليمن بأرضه وإنسانه في أروع حال وأجمل منظر، تجهيزاته مكتملة وكل شيء على وطنهم قد تزين واكتسى فرحة بعيد أعيادهم بالحلل الخضراء المناسبة له واللائقة عليه وبعقود المصابيح المتلألئة ليشكل في مجمله أجمل وأبهى وأروع لوحة كونية في الوجود تملأ الكون سناء بخضرتها السندسية، وعشقاً مقدساً بأنوار أشعتها الفردوسية التي حاكها اليمنيون من سنا حبهم الأبدي وعشقهم السرمدي للنبي المحمدي -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ-، وبصدى صلواتهم وترانيمها ذات الهُــوِيَّة اليمانية الفريدة ومحدثين بذلك أعظم احتفالية كونية يكرّرونها كُـلّ عام في أَيَّـام معلومات.

 

ولو قُدِّرَ لبشر أن يطلَّ ببصره من الفضاء عشية الذكرى على اليمن وهو لا يعرف أنه يشاهد اليمن ولا يعرف حقيقة هذه المشاهد وحقيقة ما يجري فيه لبهره مشهد جماله السحري وسلب لبه وعقله ذلك المنظر البديع الذي يرقبه بعينيه، وأسره جمال المدن اليمنية التي تبدو لناظرها من الفضاء وكأنها كواكب درية توقد من شجرة مباركة طيبة يكاد زيتها يضيء نوراً ولو لم تمسسه نار واستحوذ ما يراه على كُـلّ مشاعره وأحاسيسه، فيهيم بوجدانه في أجواء ملائكية مفعمة بالسعادة الغامرة ومملؤة بالسكينة ومطوقة بالطمأنينة، مذهولاً من روعة وعظمة جمال ما يراه وهو ينجذب إليه بلا شعور أكثر فأكثر ويخرجه من دائرة الوعي إلى دائرة اللاوعي دون أن يدرك ذلك وقد ملأت نفسه الحيرة واعتلته الريبة وأصبح لا يدري أيعيش واقعاً أم خيالاً أم لحظات نادرة من حلم جميل أَو أنه انتقل إلى عالم ملائكي آخر لا يوجد فيه سوى جنات فردوسية زاهية بأنوارها السحرية الخضراء وروائح طيبها الفواحة وبريق سعادتها الجذاب وجوانحها الفياضة بالسلام والمحبة والنعيم، وترانيم كونية لصلوات ملائكية تتردّد همساتها وكأنها تراتيل مقدسة تداعب مسامعه برقة وحنان.

 

وما إن يقترب فجر يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كُـلّ عام إلا ويسابق اليمنيون رجالاً ونساء وأطفالاً خيوط فجر ذلك اليوم بخطاهم نحو ساحات الولاء المركزية لرسول الله في مختلف المدن الكبرى في يوم مشهود ويتغلبون بإرادتهم الجامحة على كُـلّ الصعوبات وعلى كافة التحديات التي فرضها عليهم العدوان بحروبه الشاملة وحصاره لهم وعلى تراب وطنهم الغالي طوال سنوات العدوان قد أنستهم فرحتُهم برسول الله عذابَ معاناتهم وجحيم أسوأ كارثة إنسانية متفاقمة، ولا غرابة فالعشق المقدس يقهر المستحيل.

 

ومن تلك الساحات يجددون ولاءهم لله ولرسوله ولمن أمر بتوليهم من أوليائه مجسدين ذلك الولاء بالذكر والتسبيح والتكبير لله وبالصلوات على رسول الله، ويجسدون البراءة من أعداء الله ورسوله والمؤمنين في موقف عظيم تندمج فيه فرحتهم لله بغضبهم له إيمَاناً به وَتعظيماً لنبيهم وتقديساً له ورفعاً لذكره وحذواً بنهجه وتمسكاً بهديه حتى صار هذا اليوم عندهم من أعظم أيامهم المقدسة وموعداً لتجديد شحن قلوبهم بالعشق والمحبة والولاء والمودة الخالصة لله ورسوله والذين آمنوا، وللتعبير أَيْـضاً عن حمدهم وشكرهم لله سبحانه وتعالى على فضله العظيم ونعمه الكبرى عليهم وعلى آبائهم من قبلُ، أن بعث لهم رسولاً من أنفسهم، حريصاً عليهم بهم رؤوفٌ رحيمٌ وعلى ما خصهم من عظيم هدايته بجعلهم أنصاراً له ولدينه فرحين بما آتاهم الله في الدنيا ومتشوقين لما أعده لهم في الآخرة.

 

يخرجون من تلك الساحات وقد مُلِئت قلوبهم ولاء لله ولرسوله وأوليائه المؤمنين، وإيمَاناً وحباً لله، وعشقاً لرسوله وبصيرة وهدى إلى صراط مستقيم تزهوا وجوههم بأنوار الربيع المحمدي وتغمر قلوبهم فرحة الإيمَان وسعادة الوصال بمحبوبهم الأبدي ونورهم السرمدي سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- فهنيئاً لهم عظمة التفرد في العشق وعظمة الاختيار في المعشوق.

مقالات ذات صلة