هل نجحت امريكا في حربها الناعمة على العراق؟

عمران نت/ 5 سبتمبر 2017م

بعد دخول القوات الغازية (قوات التحالف) الى العراق ورغم كل مخططاته وقوته العسكرية، الا ان العراقيين لم يجدوا في القوات الاميركية ومن رافقها سوى ( قوات غازية ) فتشكلت فصائل المقاومة وبدأ الصراع والمعارك على اشدها ليجد الاميركان انفسهم عام 2011 م قد خسروا النخب من مقاتليهم وانهم دخلوا في اتون حرب صعبة ومعقدة وقد بلغ عدد قتلاهم (حسب بياناتهم ) خمسة الاف قتيل وثمانية الاف جريح ومعوق ونعتقد انهم خسروا ضعف ذلك. بعدها اضطروا ان يعقدوا الاتفاقية الامنية والاستراتيجية وان يغادروا العراق مهزومين فارين، ويصبح يوم جلائهم عيدا وطنيا.

احست الولايات المتحدة بفشلها وفشل مشروعها الاستعماري في العراق، بعد خروج قواتها وهي التي خططت لنهب احتياطه النفطي الذي يعتبر الاول عالميا، فاستمرت في التركيز على (الحرب الناعمة ) حيث عمدت الى :

1- انتاج عملية سياسية فاشلة في البلد ضمن المباديء الطائفية والعرقية.

2- تسويق شخصيات سياسية ( مأزومة ) لادارة العراق  استطاعوا من خلالهم  فقدان الانسان العراقي ثقته باي شخصية عراقية، فقد استشرى الفساد الاداري والمالي فأماتوا التنمية في البلد وعطلوا المشاريع وزرعوا اليأس في أي حالة تغيير.

3- زرع روح الاحباط والانكسار في نفوس العراقيين من خلال التركيز على الوجه المظلم من الحياة،  وذلك عبر ساعات طويلة من البث حتى بات المواطن العراقي  يعتقد أن كل مفردات وطنه فاقدة لمعانيها وطاقتها، فلم يعد يرى في نهر دجلة سوى حفرة تبعث على القرف وفي مدنه سوى خرائب تسكنها البوم والغربان ولذا فضل كثيرون الهروب من البلد بعد  أن شعروا بالاختناق والرعب والمصير المجهول وفضلوا الموت غرقا في البحار من ان يعيشوا في بلدهم !!

4- استطاعوا  توظيف التاريخ واستخراج نقاط الخلاف الدينية والطائفية والعرقية  وعرضها بشكل فجّ ومثير واشتروا ذمم رجال دين وكتاب محترفين لهذه المهمة، فخلقت أجواءا من التفكك والانقسام، والتشكيك (بأننا كنا أمة لها تاريخ حافل بالمنجزات) بعد ان عملوا على ( تسفيه) الاشياء وفقدها قيمتها سواء كانت منجزا ماديا أو انسانيا، حتى لايستطيع الانسان أن يستخدم تاريخه ومنجزه الحضاري لصناعة موقف وطني ومواجهة التحديات.

5-عملوا على فت اللحمة الاجتماعية عبر التركيز على الطائفية كحاكم لكل القيم والعلاقات حتى طلّق عديدون امهات ابنائهم تحت هذا التاثير وبذا تفككت البنية الاجتماعية وفقدت الامة واحدة من أهم مرتكزاتها.

6- قسموا مناطق العراق ومدنه الى كونتات طائفية وعرقية فبدأت عملية نزوح هائلة في اعوام الحرب الاهلية، كلٌّ ينزح الى حيث أحياء طائفته والاّ سيطاله القتل وباتت المدن واضحة المعالم الطائفية والعرقية وغادر الناس مراتع صباهم وطفولتهم وشبابهم وذكرياتهم وبات الداخل الى مدينته القديمة غريبا تماما واذا كان بين الاجيال (القديمة ) نوع  من العلاقة الهامشية (الان) فان الاجيال الجديدة كبرت على الثقافة الطائفية والعرقية وتشبعوا بها ومن المعجزة ان يمحقها عن اذهانهم الاباء !!

7- صنّعوا لنا أحزابا سياسية (طائفية) فبات الاختيار للمرشح لاي مهمة سياسية او مهنية يجري انتخابه وفق المبدأ الطائفي فأفقدوا العملية السياسية جوهرها وقوتها وركزوا هذه التوجهات في يوميات الحياة السياسية فخنقوا العمل السياسي بمحددات معقدة، جعلت الانسان العراقي لايرى في طبقة السياسيين سوى خصوما للوطن.

8- وقفوا أمام أي مشروع اقتصادي او وطني، ودمروا البنى التحتية للمصانع والمؤسسات حتى يبقى المواطن العراقي يعيش على البضاعة الاجنية ودون صناعة وطنية ويشكك في قدرته على أن يصنع ويبدع وهذا الامر وقع على الزراعة في البلد حيث رغم ان العراق يمتلك نهرين عظيمين وارض واسعة صالحة للزراعة الا ّ انه يستورد الخضر والفواكة من الخارج حتى يفقد الانسان ثقته بارضه وعطائها.

9- حاولوا بكل امكانياتهم أن يعوقوا أي مشروع اسكان في العراق مثل (قانون البنى التحتية) ودفعوا بالناس للسكن في (العشوائيات) حتى لايشعروا  الانسان بأنتمائه الى ارضه ووطنه.

10- دفعوا بشخصيات فاسدة عبر سفارتهم لادارة الخدمات فسرقوا الاموال وعطلوا الخدمات ليبدو شكل الشوارع والمدن مشوها وبعيدا عن الحضارة وينعكس على الوضع النفسي للانسان ليطابق ما في داخله من احباط وانكسار.

11- اضاعوا فاعلية وهيبة التعليم والتدريس عبر قضيتين الاولى شيوع المدارس والجامعات الاهلية التي تخرج لنا أميين وثانيا عدم وجود فرص عمل للمتخرجين مما جعل معظم المهن البسيطة يقوم بها خريجون ويعملون بأماكن بعيدة عن تخصصهم وهذا الامر خلق روحا من التذمر والقلق لدى الاسرة العراقية ولدى الانسان العراقي ايضا.

12- أفسدوا التجربة الاصلاحية في البلد حيث كلما خرجت تظاهرة للشعب  تطالب بالتغيير، تامروا عليها اما عبرعملائهم الذين يزاحمون المتظاهرين ويخنقون المظاهرة ويتصدون للاعلام ويرفعون شعاراتهم الخاصة أو بالتهديد المباشر والطعن بالاخر والنيل منه. وحين يعجزون احيانا عمدوا الى اغراء العراقيين الى ترك بلدهم والهجرة الى الغرب حدّا ان المستشارة الالمانية ميركل قالت : نريد للعراقيين ان يشاركوا في بناء المانيا! وحين هرعت اعداد من الشباب والاسر تعاملوا معهم بقسوة وأهانوهم وعرضوهم امام الاعلام بصور سيئة جدا!!

13- كان لحل الجيش العراقي والمؤسسات الامنية الاخرى  بعد سقوط النظام البائد، الاثر السيء على حياة العراقيين حيث ادى ذلك الى الشعور بالخوف والقلق لدى المواطن لعدم وجود مؤسسة أمنية تدافع عنه وتحمي حقوقه، كما اراد الاميركان من ذلك ان لايجد المواطن العراقي من ملاذ سوى القوات الاميركية لتدافع  عنه وهذه ما تسمى في الحرب الناعمة (الجاذبية).  

14- تحطيم صور الرموز التاريخية والمعاصرة في ذهن المواطن العراقي عبر  ايجاد وسائل اعلام وقنوات فضائية تنال من جميع الشخوص التاريخية  للعراق  وتعمد الى الطعن بهم عبر سلسلة من الاكاذيب والافتراءت حتى لايكونوا مبعثا للثقة بالنفس ومصدرا للتحولات الثورية. وهيؤوا لذلك وسائل اعلام متناقضة الافكار والاراء ليشكلوا هوسا في ذهن المواطنين. 

وليخلقوا  أجواءا من التوتر والخصومة  بين جميع القوميات والاديان والطوائف في العراق  ثمّ عرضت امريكا نفسها بانها المنقذ لكل منها، فقد تعرض المسيحيون عبر عملاء امريكا الى سلسلة طويلة من الاعتداءت والتهجير والقتل، ثم تعرض الايزيديون والصابئة والشيعة والسنة ليجدوا انفسهم في خطر ولا ملاذ سوى الحظن الاميركي.

15- عملوا على إرباك االعملية السياسية  في العراق وخلقوا اجواءا من الصراع بين أجنحته  السياسية ورجالاته حتى بدا المشهد السياسي في العراق منهكا خائر القوى وليس بالافق من حلول، أمام حيرة المواطن ماذا ينتخب ولمن سيختار لتقدم نفسها الولايات المتحدة كبديل لكل هذه المسميات وتطرح الحلول .

16- بعد جلاء القوات الاميركية من العراق عام 2011 م وازدياد عدد القوات العراقية في العدد والعدة والتسليح والشعور بعدم الحاجة الى قوات اجنبية، عمدت امريكا منذ يوم جلاء قواتها وحتى تموز من عام 2014م الى صناعة تنظيم  داعش الارهابي و وفرت له كل الظروف من الدعم والتسليح والتمويل وصناعة بيئة في المناطق  السنية  للشعور بـ “التهميش” والاقصاء عبر الاعلام وعبر مجموعة من السياسيين  ورجال الدين ليرتقوا المنصات ويحشدوا الناس ليجد الارهاب الطريق سالكا لاحتلال ثلث ارض العراق واضعاف المؤسسة العسكرية وفقدان الثقة بها بانها غير قادرة على حماية البلد ثم في غمرة انشغال البلد بالارهاب ومعالجة تاثيره وترتيب المؤسسة العسكرية، أعادت أمريكا قواتها بشكل (ناعم ) تحت ذريعة (التدريب والاستشارة ) لتخطط لزيادة قواتها التي تجاوزت الستة الاف والى  انشاء خمس قواعد في المناطق الغربية من البلد.

18-استفادت امريكا من الفوضى الاعلامية في العراق بعد 2003م فأنشأت وكالات واذاعات وقنوات فضائية ممولة من قبلها لتدعم كل توجهاتها في التأثير على الراي العام والتوافق مع مشروعها في الحرب الناعمة.

17-  عملت امريكا على خلق زعامات  دينية جديدة لاتملك مواصفات الزعامة الدينية المعهودة في الثقافة والعلوم وسخرتها للنيل من الزعامات (الرموز) سواء من الحوزة العلمية أو أي مؤسسة دينية اخرى لاضعاف تاثير هذه الزعامات على الشارع العراقي.

18- استطاعت أمريكا عبر الطرق (الهاديء) على معدن الزعامات السياسية الشيعية أن تزرع الفتنة فيما بينها وان تصنع لها خلافات ومشاكل ودفعت  بها الى الابتعاد عن دائرة المشتركات الى مواقع الخلاف والنفرة وبذا وفرت امريكا لنفسها فرصة الولوج بينها والظهور امامها بانها الراعية للجميع . ومثلما عملت مع الزعامات الشيعية عملت مع السنية واستطاعت ان تحدث الخرق ذاته.

19-  ضغطت امريكا كثيرا في عدم منح الفرصة للنخب المثقفة والعلماء والمفكرين. وذوي الخبرة والاكاديميين ان يشاركوا في بناء بلدهم  وصناعة الراي بل سادهم التهميش والاقصاء المتعمد. وباتوا يحسون بالغربة والالم داخل بلدهم وهم يرون انفسهم عاجزين في ايجاد الحلول.

20- عندما هاجمت التنظيمات الارهابية (داعش) العراق واوشكت العاصمة بغداد ان تسقط بيد الارهابيين، كانت ردود الفعل الغير محسوبة لدى الاميركان أن يواجه الارهاب بالفتوى الدينية للمرجعية الرشيدة وكيف استطاعت ان تستنفر الالاف  للتطوع ومواجهة الارهاب والانتصار عليه،  بعد ان تكون السفارة الاميركية قد باشرت بنقل اكثر من الف ونصف موظف من منتسبيها لذا صعدت من (حربها الناعمة ) أولا للتخلص من المتطوعين (الحشد الشعبي) عبر الصاق التهم اليهم وعبر الضغط على الحكومة في ضمهم وتوزيعهم على صنوف الجيش وفق معايير التطوع العام للقوات الامنية لغرض فقدانهم قوة التأثير الديني المباشر والاستغناء عن العدد الاكبر منهم . وثانيا ستعمل على اضعاف المؤسسة الدينية عبر استقدام رجال دين متطوعين للنيل من المراجع الدينية وقد باشرت بذلك.

21-  أفراغ الامة من ارثها الديني والمعنوي والانساني وذلك بتوضيف الارهابيين الذين انتجتهم معسكرات (بوكا وكروكر) الاميركية في تهديم وتفجير المراقد المقدسة مثل تفجير الامامين العسكرين (علیهم السلام) عام 2006م وباقي المراقد الدينية التي وصل عددها الى حوالي 200 مزار ومعبد وكنيسة ومقام وكذلك تفجير وتهديم الاثار الحضارية حتى لاتكون محفزا لثقة الانسان بنفسه وتاريخه فيما تعرض كل اعمال التفجير والتهديم بافلام مصورة ليرى المواطن العراقي بام عينه كيف  يتم هدمها وتفجيرها  فيصاب بالاحباط.

22- جعل الاميركان قضية (اقليم كوردستان ) وسيلة للضغط الدائم على أي محاولة للتغيير في بغداد وحفزوا شخصيات في الاقليم  مثل (مسعود بارزاني) للتمرد الدائم على الحكومة الاتحادية والدفع باتجاه الاستقلال مما شكل قلقا دائما للحياة بشكل عام لدى الانسان العراقي سواء في الاقليم أو خارجه في رؤسة ضبابية لمستقبل بلده.

لاشك أن معركة “الحرب الناعمة” التي تقودها الولايات المتحدة ضد العراق، وفرت لها امريكا سبلا ومصادر عديدة  مثل مصانع هوليـــود و الإنتاج الإعلامي والسينمائي الأميركي وما تصلنا من أفلام في تفوق المقاتل الاميركي، الطلاب والباحثين الأجانب الوافدين للدراسة في الجامعات والمؤسسات التعليمية، فهم يشكلون جيوشا  يحملون معهم آلاف النوايا الطيبة والودائع الحسنة عندما يعودون إلى بلدانهم وأوطانهم ويتقلدون المراكز والمواقع العليا وسيصبحون سفراء غير رسميين لخدمة أميركا، والمهاجرين ورجال الإعمال الأجانب العاملين في السوق الأميركي وقطاع الأعمال، شبكات الانتــــرنت والمواقع الأميركية المنتشرة في الفضاء الالكتروني، برامج التبادل الثقافي الدولي والمؤتمرات الدولية التي ترعاها وتشارك في تنظيمها أميركا، الشركات الاقتصادية العابرة للقارات، الرموز والعلامات التجارية مثل كوكا كولا وماكدونالدز وغيرها. كل هذه المصادر يواجهها بلد مثل العراق خرج منهكا من حربين قاسيتين وحصار ظالم وظروف اقتصادية صعبة ومشاكل لاتعد ولا تحصى فيما تصدت للعملية السياسية في البلد بعد عام 2003 م شخصيات ضعيفة وجدت في نهب المال العام وسرقة املاك الدولة وسيلة سهلة  لتثبيت وجودها  فتركت لامريكا مساحة واسعة لتطبيق حربها (الناعمة ) على العراق.

وفقا للمعطيات التي اوردناها عن الحرب الامريكية الناعمة على العراق، يكون الانسان العراقي أمام أختبار صعب في مواجهة هذه الحرب بعد أن يكتشف اهدافها ومخاطرها وأن يعد نفسه بما يمتلك من مقومات النهوض والمنعة في مواجهة هذه التحديات والحروب ليضع نفسه امام مسؤولية كبيرة بان لايستسلم بقدر الاستفادة من جذوة النصر على الارهاب لصناعة مستقبل ابهى يليق به وبتاريخه.

بقلم: محمود الهاشمي الكاتب والمحلل السياسي

مقالات ذات صلة