
غزة بعد عامين من الإبادة.. مدينة بلا ماء ولا مأوى
تحت طبقات الغبار والركام، تختنق غزة بصمتها. مدينة كانت تضج بالحياة والأسواق، صارت أطلالًا تمتد على مدى البصر، وناسها يبحثون عن جرعة ماء أو سقف يأويهم من برد الليل ولهيب النهار.
لم تعد الشوارع سوى ممرات مغطاة بالأنقاض، ولا البيوت سوى ذكرى محفورة في ذاكرة من نجا. مياه الشرب ملوثة، شبكات الصرف الصحي مدمرة، والمدارس التي كانت تضج بأصوات التلاميذ تحولت إلى ملاجئ مكتظة بالعائلات التي فقدت كل شيء.
في ساحة مدرسة حكومية شمالي المدينة، يجلس محمد أبو علي، رجل خمسيني من حي الشيخ رضوان، يحدّق في برميل ماء ملوث تتقاسمه عشرات الأسر.
يقول بغصّة لـ صحيفة (فلسطين): “خرجنا من تحت الركام بملابس النوم فقط. نعيش بلا أبواب، بلا فراش، بلا ماء نظيف… والأطفال يمرضون كل يوم.”
كان أبو علي يملك منزلًا من ثلاث طبقات يأويه وأبناءه وأحفاده، قبل أن يحيله قصفٌ إسرائيلي إلى كومة رماد. نجا الجميع، لكن لم ينجُ شيء من الذاكرة.
العدو الإسرائيلي، خلال ما أسماه “عملية عربات جدعون – الجزء الثاني”، دمّر أحياء بكاملها وغير ملامح المدينة. في حي الشيخ رضوان أيضًا، وقف محمد إسماعيل بين أنقاض بيته الذي التهمته النيران قبل أن ينسحب الجنود منه.
يقول محمد: “لم يحرقوا منزلنا فقط، بل أحرقوا قلوبنا وذكرياتنا… حتى براميل المياه ذابت من شدة النار.”
وفي منطقة الكرامة شمال غرب غزة، يحاول الشاب تامر شرف إشعال النار بما تبقى من أثاث منزله ليطهو لأطفاله وجبة بسيطة. يتصاعد الدخان الأسود، يختلط بالغبار والرماد في هواء أثقل من التنفس ذاته.
“نمشي ساعات لنملأ بضعة لترات من الماء… لكنها لا تكفي ليوم واحد. يقول شرف”.
غزة اليوم بلا مأوى، بلا ماء، بلا حياة. بين الركام يحاول الناس أن يصنعوا من الخراب بيتًا، ومن الأمل وطنًا. الآباء يرممون زوايا مهدمة لتصبح مأوى، والأمهات تبحثن عن قطعة قماش تحفظ شيئًا من الخصوصية، فيما يلعب الأطفال بين الأنقاض، غير مدركين أن الحجارة التي يتسلقونها كانت يومًا جدار غرفهم.
في كل زاوية من المدينة قصة فَقْدٍ جديدة، وفي كل ركام حكاية منزل كان يحتضن أحلامًا صغيرة. ومع استمرار منع إدخال معدات إعادة الإعمار وعرقلة فتح الطرق، تبقى غزة محاصرة بدمارها، تحاول أن تتنفس وسط الركام.
ورغم أن الدمار يطوّق غزة من كل الجهات، تبقى الحياة تنبض في تفاصيلها الصغيرة. في مدينة فقدت ماءها ومأواها، ما زال أهلها يصرّون على البقاء، يلتقطون أنفاسهم من بين الغبار، ويعيدون بناء ما تهدّم بأمل لا ينكسر.
غزة ليست مجرد مدينة تحت الركام، بل شهادة حيّة على شعب يرفض الفناء، يواجه الموت بإرادة الحياة، ويحوّل الرماد إلى وعدٍ بالنهار القادم، مهما طال ليله.