منظمة الأمم المتحدة (الأمريكية).. ومفارقة الحرب والسلام في اليمن (1)

إبراهيم محمد الهمداني

 

طالما كانت –وما زالت- الحرية هاجساً جمعياً متوقداً، وحقاً إنسانياً مطلقاً، لا يُستجدى ولا يُوهب، وإنما يُنتزع انتزاعاً بعد تسديد ثمنه المستحق من الدماء والتضحيات والمواقف والبطولات، ومواجهة المستعمر بكل قوة مهما كانت ضخامة وفتك آلته القمعية التي يحرص على استعمالها -ضد الشعوب- إلى آخر لحظة، وحين لا يجد بداً من الخضوع لإرادَة الشعوب، يسارع إلى تغطية وجهه الإجرامي بقناع من الإنسانية المزيفة، مبدياً تفهمه مطلب الشعوب، مؤكّـداً حقها في الحرية، ليمنحها بموجب ذلك الدور المخادع استقلالاً مغلماً ومفخخاً ظاهره الحرية وباطنه تبعية أقبح واستلاب أنكى تديره وتكمل طريقه أيادٍ وطنية محسوبة على الشعب والثورة من مواقع قيادية عليا لصالح سلفها المستعمر الخارجي مقابل ما تحصل عليه من دعمه ومساندته على كافة المستويات والأصعدة، وحرصه على ضمان بقائها في كرسي الحكم كاستحقاق مطلق للحاكم الأبدي، وعند ذلك يتوجب على الشعوب دفع ثمن الحرية باهظاً مرة أُخرى للتخلص من مستعمر وطني عميل، ومستبد أكثر توحشاً وإجراماً من سلفه، ومتسلط يرى الوطن أرضاً وإنساناً ملكية خالصة، والسلطة حقاً إلهياً محضاً، والمحكومين مُجَـرّد أرقام، لا فرق بين البشر والحيوانات الأليفة إلا بمقدار ما تقدمه من خدمات لمالكها، وقد تكون الأخيرة أفضل؛ كونها تخدم بصمت.

 

كان ما سمي “الربيع العربي” محطة هامة في سياق التحولات السياسية العميقة، واستراتيجية القوى الاستعمارية الكبرى في عملية صناعة وإعادة إنتاج الأنظمة العربية الموالية للإمبريالية الأمريكية، والعالمية بشكل عام، ناهيك عن الأنظمة غير المتعاونة، حسب وصف وزير الخارجية الأمريكي، كونداليز رايس، (2005 – 2009م) التي تسلمت ملف مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، من إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن، وكانت رائدة هذا المشروع في كُـلّ المحافل الدولية مبشرة بولادة (شرق أوسط جديد)، يقوم على مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية التي ستنشرها أمريكا -على طريقتها الخَاصَّة- في سبيل تحرير شعوب الشرق الأوسط من هيمنة وتسلط أنظمتها الحاكمة الديكتاتورية، واستبدالها بأنظمة أكثر انفتاحاً وتفهماً ومرونة في مواقفها من الولايات المتحدة الأمريكية، وأخواتها من القوى الاستعمارية الكبرى.

 

هدف هذا المشروع التفكيكي صراحة إلى التخلص من الأنظمة العربية الحاكمة التي لم تشفع لها عمالتها وارتهانها للقوى الاستعمارية، وخدمتها في البلاط الإمبريالي على مدى عقود من الزمن، ورغم ذلك لم تحاول الأنظمة الحاكمة العودة إلى جادة الصواب، وتحسين علاقتها بشعوبها، بل ازدادت تسلطاً وفجوراً وتوحشاً، الأمر الذي جعل إسقاطها مطلباً شعبيًّا، ورغبة جمعية عارمة، خَاصَّة وقد اندلعت ثورات (الربيع العربي)؛ مِن أجلِ تحقيق هذا الهدف أولاً وقبل كُـلّ شيء، وليكن بعد ذلك ما يكون، وكان هذا هو الجو المناسب لتدخل القوى الاستعمارية في رسم مسار الثورات الشعبيّة، وتوجيهها ضمن مدارات مصالح المشروع الإمبريالي، حَيثُ وقفت تلك القوى الاستعمارية إلى جانب الشعوب مباركة ثورتها ومؤكّـدة مشروعية مطالبها، ومعلنة دعمها الكامل، وقد صدرت قرارات مجلس الأمن، وتوصيات منظمة الأمم المتحدة بما يعزز حضورها في هذا السياق لتضع سيناريوهات متعددة لنهايات تختلف تفاصيلها في تصوير المشاهد الختامية في حياة الزعماء والرؤساء والقادة العرب الذين أمضوا عقوداً من الزمن في خدمتها، لينتهي بهم المطاف ما بين لاجئ سياسي، ومعتقل في السجن، وقتيل بأيدي الثوار، ورابع مُنح حصانة أممية، ليس من قبيل مكافأة نهاية الخدمة، وإنما؛ مِن أجلِ مهمة خيانية قادمة يختم بها سجل عمالته وارتهانه وإجرامه.

 

استطاعت منظمة الأمم المتحدة الاستعمارية، عبر أقطابها الخمسة الفاعلين، وعملائها وأدواتها ومرتزِقتها، تحويل ثورات (الربيع العربي) 2011م، إلى مجرى نهر مصالحها الكبير، واغتالت إرادَة الشعوب في غمرة الاحتفال بها، وما بين غمضة عين وانتباهتها، أصبح الواقع أكثر مأساوية، وعلاوة على الفساد والبطالة والقمع والظلم وَ… إلخ، الذي كان سائداً سابقًا، برزت مظاهر مرعبة من الانفلات الأمني، والاضطراب السياسي، والصراع المدمّـر على كافة المستويات في ظل غياب الدولة (فراغ إداري)، وانتشار ثقافة الفيد، وتصفية الحسابات والثارات القديمة، وأصبحت مؤسّسات الدولة عبارة عن جهاز كبير مفرغ بحجّـة شروط الوفاق حيناً، وعدم الاتّفاق حيناً آخر؛ وكون الفترة (انتقالية) لم يكن مشجعاً للأطراف المتقاسمة لكعكة الحكم في التقارب فيما بينها وتقريب وجهات النظر بما يخدم الصالح العام، نظراً لضيق الوقت، وأولوية تحقيق المصالح الشخصية، وفي ظل فشل طروحات الحكم التقدمية من ناحية، وفشل مشروع الإسلام السياسي الإخواني في عالميته عن إنتاج مشروع سياسي ناجح من ناحية ثانية، احترقت آخر آمال الشعوب في اجتراح ثورة أُخرى، ومات الإسلام كمشروع حياة في نفوسهم وثقافتهم، وأيقنوا عجزه عن تلبية متطلبات المرحلة، أَو ملائمته للتطبيق كنظام حكم، على أرض الواقع، مستسلمين لمقولات الغرب الاستعماري بوجوب التفريق بين الإسلام الخاص بطقوس العبادة، والسياسة الخَاصَّة بتصريف أمور الحكم، وأن ذلك هو أَسَاس النهضة ومرتكزها الأول، وبذلك أصبحت الشعوب العربية الضحية الأكبر على مذبح السياسة الإمبريالية تلعن نفسها إن هي فكرت مرة أُخرى بالحرية والعدالة والديمقراطية والسيادة والاستقلال.

 

كانت ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م، نقطة التحول السياسي الكبرى؛ لأَنَّها الثورة الشعبيّة السلمية الوحيدة، التي تجاوزت شباك المؤامرات الإمبريالية، وانتصرت لإرادَة الشعب بالشعب، ولا شيء غير الشعب، وأسقطت مشروع الوصاية الاستعمارية في اليمن إلى غير رجعة، وألحقت بالولايات المتحدة الأمريكية، وأممها الاستعمارية في الغرب والشرق وما بينهما هزيمة نكراء ساحقة، جعلتها تجرجر أذيال غطرستها المهينة، وهي تخرج من اليمن صاغرة ذليلة، معلنة أن لا سلطة لسفاراتها ولا مندوبيها ولا عملائها في اليمن بعد اليوم، وهي تعي حقيقة ذلك الوضع وخطورته الكبيرة عليها مستقبلاً على مستوى المنطقة والعالم وجودياً وسياسيًّا، فاليمن هي فاتحة المشروع التحرّري العالمي حَـاليًّا، وهي قائدته وحاملة لوائه عربياً وعالميًّا، وهو ما تؤكّـده مدلولات الشعار (الصرخة)، كمرتكز أيديولوجي مكثّـف، وتشهد به مفاعيل المشهد العسكري الميداني، وطروحات المفاوض السياسي، ومبادرات القيادة الثورية والسياسية التي تصب معظمها في خدمة القضية (الفلسطينية) المركزية، وقضايا محور المقاومة والقضايا الإنسانية عامة، وغير ذلك من الشواهد الحية المؤكّـدة لعالمية الثورة اليمنية، ومسيرة الحرية والسيادة والاستقلال في تشكلها الجمعي العام.

 

لذلك وغيره.. كان للأمم المتحدة الإمبريالية، وزعيمتها الأمريكية، وأخواتها الأقطاب الاستعمارية موقف معاد مطلق، تجاه الشعب اليمني وثورته ومسيرته التحرّرية العالمية، وهو ما يجعلنا نتساءل:- هل كان هناك من سبيل لتفادي هذا العداء الإمبريالي العالمي؟، وما طبيعة المطالب التي حملتها ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م؟، وما حالها اليوم بعد ثمانية أعوام من العدوان، هل جرى التنازل عن أجزاء منها أَو بعض تفاصيلها، أم أنها ما زالت حاضرة بكل قوتها وتمامها حتى الآن؟ وكيف يمكن قراءة وتحليل صورة ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م، وصدى نجاحاتها وانتصاراتها العسكرية والسياسية والتنموية في منظور الإعلام الآخر سواء المعادي أَو الصديق؟.

 

 

مقالات ذات صلة