“نص” المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

 

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

 

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

 

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

 

أيُّها الإخوة والأخوات

 

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

 

من ضمن الآيات المباركة التي أتت في سياق الحديث عن فريضة صيام شهر رمضان- الآيات المباركة في سورة البقرة- أتى قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: الآية186].

 

الدعاء في الحالة الإيمانية هو من لوازم الإيمان، وجزءٌ مما يعبِّر به الإنسان المؤمن عن إيمانه، فالدعاء يعبِّر عن إيمانك بالله “سبحانه وتعالى” أنه الحي القيوم، أنه المدبر لشأنك، وشؤون السماوات والأرض، وشؤون الخلائق أجمعين، أنه الرحيم الكريم، أنه أرحم الراحمين، أنه سميع الدعاء، أنه المنعم المتفضل، أنه الملاذ والملجأ، الذي تلجأ إليه، وتلوذ به، وتفر إليه من كل هموم هذه الحياة، ومن كل التحديات والمخاطر فيها.

 

ومن جانبٍ آخر، هو يعبِّر ويدل على تذكُّرك لله “سبحانه وتعالى”، أنك ذاكرٌ له، لست غافلاً عنه، لست ناسياً له، الحالة البديلة عن الدعاء لله “سبحانه وتعالى”، هي: حالة النسيان لله، والالتجاء إلى غير الله “سبحانه وتعالى”؛ لأن الإنسان هو عبدٌ ضعيفٌ مفتقرٌ دائماً، يحتاج إلى العون، يحتاج إلى الرعاية، يحتاج إلى المساعدة، هو إمَّا أن يكون متوجِّهاً إلى الله “سبحانه وتعالى”، وإلَّا كان البديل أن يتوجه إلى غير الله، إلى أمثاله من العبيد الضعفاء المحتاجين، الفقراء إلى الله “سبحانه وتعالى”.

 

وهو أيضاً يعبِّر عن رجائك كإنسانٍ مؤمن، أنك ترجو الله، ترجو رحمته، ترجو فضله، تثق به، تتوكل عليه، أنك منيبٌ إليه، توَّابٌ إليه، رجَّاعٌ دائماً في كل المهمات والملمات، وفي كل الأحوال والظروف، إلى رحمته وكرمه وفضله، فالدعاء موقعه من الإيمان هذا الموقع المهم جدًّا، والذي لا بدَّ منه في الحالة الإيمانية.

 

في إطار الحديث عن صيام شهر رمضان المبارك في الآيات المباركة من سورة البقرة، أتت هذه الآية المباركة، بهذا التعبير الرقيق، الذي يعبِّر عن رحمة الله “سبحانه وتعالى”، وعن كرمه، وعن فضله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، الله “سبحانه وتعالى” هو القريب من عباده، يعلم بكل أحوالهم وظروفهم، ويسمع دعاءهم ونداءهم، يَذْكُر من ذَكَرَه، ويَشْكُر من شَكَرَه، وهو “سبحانه وتعالى” يجيب الدعاء، يسمع الدعاء، ويجيب الدعاء، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ويَسَّر لعباده مسألة الدعاء، فليست مسألةً معقَّدةً في وسائلها، وليست مسألةً ترتبط بأشخاص محددين فقط، يَسَّر المسألة إلى هذا المستوى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فهو يجيب كل من دعاه إذا دعاه، وفق حكمته ورحمته “سبحانه وتعالى” وتدبيره، وهو الحي القيوم، ووفق ما يتعلق أيضاً بأحوال الداعي إذا دعا، وهو ما نتحدث عن بعضٍ منه على نحوٍ مختصرٍ إن شاء الله.

 

في مسألة الدعاء، الدعاء حالةٌ مطلوبةٌ من الإنسان في كل الأحوال؛ لأنها- كما قلنا- جزءٌ من إيمانه، ومن التزاماته الإيمانية، ومن اهتماماته الإيمانية، تعبِّر عن عمق علاقته بالله “سبحانه وتعالى”، فهي حالةٌ مطلوبةٌ في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء، وفي مختلف الحالات، وفي مختلف الظروف، وفي مختلف الأوقات، فالإنسان المؤمن لا يغفل عن الله بشكلٍ مستمر، لا يبقى في حالةٍ من الغفلة والنسيان والإعراض، وينكفئ على نفسه في همومه، في مشاكل حياته، في آماله ورغباته، في متطلبات حياته، كل شيءٍ في واقع حياته يشده إلى الله، حالة اليسر تشده إلى الله، وحالة العسر كذلك، حالة الرخاء تشده إلى الله، وحالة الشدة كذلك، الاهتمامات التي لديه المتعلقة بإيمانه ودينه ومستقبله في آخرته تشده إلى الله “سبحانه وتعالى”، وظروف وشؤون حياته هذه، بكل ما فيها من هموم ومشاكل ومعاناة، وبكل ما فيها من يسرٍ وخيرٍ، تشده إلى الله “سبحانه وتعالى”، فهو ذلك الذي يلتجئ إلى الله دوماً، ويتوجه إليه بالدعاء في كل الحالات، كل شيءٍ يشده إلى الله، يدفعه إلى الدعاء لله “سبحانه وتعالى”.

 

البرنامج العبادي في الذكر والصلاة يشده إلى الله “سبحانه وتعالى”، الأوقات المباركة، الأوقات المميزة، التي تعتبر فرص الاستجابة فيها أكثر، من أهم الأوقات عند الإنسان المؤمن التي يحاول أن يقتنص الفرصة فيها، وألَّا تفوته الفرصة فيها، فهو أيضاً يبحث عن تلك الأوقات، وهو أيضاً يحرص عليها، يحرص على المناسبات، على الأعمال؛ لأن هناك من الأوقات، ومن الأعمال، ومن الحالات، ما تكون فرصة الاستجابة فيها للدعاء أكثر، فهو يحرص على تلك الأوقات المميزة، الحالات المميزة، ومنها: شهر رمضان، ومنها: ليلة القدر أيضاً في داخل شهر رمضان، ومنها: العشر الأواخر في شهر رمضان، ومنها: الأوقات المباركة على الدوام، مثل: أوقات السحر، أوقات آخر الليل، مثل: عقب الصلوات… أوقات متعددة تعطى فيها للإنسان فرصة أن يدعو الله “سبحانه وتعالى”، وأن يحظى بالاستجابة من الله “سبحانه وتعالى”.

 

ففي الآية المباركة يأتي الحث والترغيب في الدعاء، ما أكرم الله! ما أعظم رحمته وفضله! هو الذي يدعونا أن ندعوه، هو الذي يحثنا على أن ندعوه، هو الذي يرغِّبنا في أن ندعوه، ويعدنا بالاستجابة، ويرشدنا إلى أسباب الاستجابة، ويحذِّرنا من العوائق التي تمثِّل مشكلةً لنا وعائقاً في أن نحظى بالاستجابة.

 

في هذه الآية المباركة هو يقدِّم هذا العرض المبارك منه “سبحانه وتعالى”، يعرضه علينا، ينادينا، ويدعونا، ويرغِّبنا، هل نريد أكثر من ذلك؟! إلى درجة أن يعد هذا الوعد بالاستجابة: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، والله يريد من كل عباده أن يدعوه، وليس فقط أن يتصوروا أنَّ هذه المسألة خاصةٌ بمن بلغوا منتهى الصلاح منهم، أو بلغوا أعلى مستويات الإيمان منهم، الكل عليهم أن يتوجهوا إلى الله “سبحانه وتعالى” بالدعاء، وأن يحرصوا- في نفس الوقت- على أسباب الاستجابة.

 

في آخر الآية المباركة قال “جلَّ شأنه”: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، إذا أردنا أن يستجيب الله دعاءنا، ووفق حكمته، وتحت سقف حكمته، وبمقتضى ما يدبِّره “سبحانه وتعالى”؛ لأنه الحي، القيوم، الرحيم، عالم الغيب والشهادة، الأعلم بمصلحتنا منا، الأعلم بما فيه الخير لنا حتى منا، إذا أردنا أن نعرف أسباب الاستجابة، فلنلحظ قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}، فلنستجب لله “سبحانه وتعالى”، ولنؤمن بالله “سبحانه وتعالى” إيماناً ثمرته الثقة بالله، التوكل على الله، الرجاء الصادق في الله “سبحانه وتعالى”، هذا الإيمان وهذه الاستجابة هي ما ينقصنا كثيراً في واقعنا، وهي ما يؤثِّر علينا، إلى درجة أن يتساءل الإنسان: [لماذا أدعو فلا يستجاب لي في أكثر الأمور؟]، هناك نقصٌ كبير في مسألة الاستجابة، الاستجابة الجزئية التي هي الحالة الغالبة السائدة في مجتمعنا الإسلامي، في واقعنا بشكلٍ عام، مع إهمال لأشياء أساسية لا تحصل الاستجابة فيها من جانب الناس، من جانب مجتمعنا الإسلامي، من جانبنا لله “سبحانه وتعالى”، هي تمثل مشكلةً كبيرةً علينا.

 

المطلوب في الاستجابة أن تكون استجابةً شاملة، أن نستجيب لله “سبحانه وتعالى” في مختلف التزاماتنا الإيمانية: في الجانب السلوكي، في الجانب الأخلاقي، في الجانب الروحي والعبادي، في جانب المسؤوليات التي حددها الله لنا، ورسمها لنا… في مختلف الجوانب، أن نتجه، أن يكون هذا هو التوجه الأساس نحو الاستجابة الشاملة، مع التوبة والإنابة إلى الله عند الزلل، عند التقصير، عند التفريط في شيءٍ ما، والرجوع العملي إلى الله “سبحانه وتعالى”.

 

عندما يكون التوجه نحو الاستجابة الكلية، الشاملة، المتكاملة، حالة قائمة في واقعنا، ونسعى لأن نبادر إلى تلافي أي تقصير، وأن نرجع إلى الله عند كل زلل، فالله هو أرحم الراحمين، هو أكرم الأكرمين، هو ذو الفضل الواسع العظيم، هو الذي لا يخلف وعده أبداً، لا يخلف الله وعده، والذي يفي بما وعد به، وهذه مسألة مهمة جدًّا، من ضمن الاستجابة أن نستجيب لله في الدعاء نفسه، أن نتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأن هذا مما أمرنا به، ورغَّبنا فيه، ووجَّهنا إليه.

 

أيضاً من ضمن الاستجابة الكاملة والشاملة: الاستجابة أيضاً في الأسباب العملية، يرتبط بالدعاء الأسباب العملية، ليس الدعاء بديلاً عن العمل، الدعاء في الحالة الإيمانية مرتبطٌ بالعمل، مبنيٌ على أساس الانطلاقة العملية، والاستجابة العملية، مثلاً: لا يمكن بأن نكتفي بالدعاء بأن ينصرنا الله على أعدائنا فحسب، ونتنصل عن مسؤولياتنا العملية التي ترتبط بالنصر، فالله تعالى يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: من الآية46]… وهكذا تأتي تعليمات وتوجيهات كثيرة ترتبط بهذه المسألة، فنأتي في حالة الاستجابة الكاملة إلى الأخذ بهذه الأسباب العملية، وندعو الله، ندعوه بأن ينصرنا، {وَانْصُرْنَا}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ندعوه “سبحانه وتعالى” من ميدان العمل، في إطار الأخذ بالأسباب العملية.

 

في مسألة الرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: من الآية15]، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: من الآية10]، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا}[النساء: من الآية32]، الأخذ بالأسباب العملية، ومع الأسباب العملية يأتي الدعاء أيضاً.

 

ففي إطار الفرص المميزة لاستجابة الدعاء، يأتي شهر رمضان المبارك، وتأتي هذه الآية المباركة، التي تلفت نظرنا إلى هذه الفرصة، وإلى أهمية المسألة بشكلٍ عام، ويأتي في آخرها قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وما أحوجنا إلى الرشد! ما أحوجنا إلى أن نهتدي إلى الخير في شؤون ديننا ودنيانا، في شؤون دنيانا وآخرتنا! ما أكثر ما يتخبط فيه الناس، وهم يسعون وراء الخير، كل إنسان يريد الخير لنفسه، الإنسان هو مفطورٌ على ذلك، يريد الخير لنفسه، ولكن ما أكثر الوسائل، والأعمال، والتصرفات، التي تصدر من الإنسان، ويريد أن تكون وسيلةً يصل بها إلى خيرٍ لنفسه، أو يحقق بها خيراً لنفسه، فلا يصل، بل ينتج عن الكثير منها النتائج السيئة، المعاكسة، يعمل عملاً معيناً، ينطلق على أساس رؤية معينة، فكرة معينة، وهي في عواقبها سيئةٌ عليه، لا توصله إلى الخير، الاهتداء إلى الخير يحتاج إلى فكرة صحيحة، يعتمد على رؤية سليمة، الله “سبحانه وتعالى” إذا استجبنا له، إذا انطلقنا وفق هديه، تعليماته، توجيهاته، هو الأعلم بالخير لنا، وهو مصدر كل الخير “سبحانه وتعالى”، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، فلكي نرشد، فلكي نهتدي للخير في مساعينا، في أعمالنا، في اهتماماتنا، فيما نطلبه ونسعى إليه، نحتاج إلى الله “سبحانه وتعالى”، إلى هديه، ونستجيب له، ونؤمن به، وهذا ما يوصلنا إلى الخير كله في الدنيا والآخرة.

 

استجابة الدعاء أيضاً يرتبط بها التدبير الإلهي، وليست مسألةً متروكةً إلى مزاج الإنسان، إلى سقفه وسقف رغباته، وأهوائه، وآماله التي قد لا تكون منضبطةً بالحكمة، ولا وفق تدبير الله العام الحكيم، الإنسان أحياناً ينطلق من منطلق رغباته، والتي هي مزاجيةٌ إلى حدٍ كبير، وأهوائه، ولا يلتفت لا إلى واقعه العملي من جهة، ولا إلى واقع الحياة من جهةٍ أخرى.

 

{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: من الآية3]، أمور الكون، أمور الحياة مُدَبَّرةٌ بتدبير الله الحي القيوم الحكيم، وهناك الأسباب والنتائج، والسنن التي رسمها الله في شؤون هذه الحياة، لا يمكن للإنسان، لا يمكن له هو وفق رغباته أن يخترق هذه السنن التي نظَّم الله واقع الحياة على أساسها، ولكن تبقى هناك مساحة مهمةٌ جدًّا، مساحةٌ هي الكفيلة بالانتقال بك إلى الخير، إلى الفلاح، هي الكفيلة بالنقلة بك إلى ساحة الرحمة الإلهية، الإنسان يدعو الله، ويكون واثقاً بالله، ومقتنعاً بأن الله هو الحكيم، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، هو الأعلم بمصلحته، فالإنسان أحياناً يطلب شيئاً من الله بإلحاح، وبعض الأشياء قد لا تكون مناسبةً للإنسان في علم الله “سبحانه وتعالى”، قد يترتب عليها ما يؤثر على الإنسان في حياته، أو في دينه، فيكون من رحمة الله “سبحانه وتعالى” ألَّا يستجيب لك في ذلك، وأن يبدلك خيراً منه، ويعطيك مكافئةً ورحمةً وتفضلاً منه في مقابل دعائك، التجائك، طلبك، ما هو خيرٌ لك.

 

في القرآن الكريم عندما نعود إلى أنبياء الله- والقرآن الكريم يتحدث عن دعائهم- نجد مختلف الأدعية، أنواع الأدعية، التي تتعلق بجوانب كثيرة، بشؤونٍ متعددة من ظروفهم وشؤونهم، ونجد في مقدِّمة ما يطلبونه من الله “سبحانه وتعالى” هو: المغفرة، وهذا يعلمنا أن يكون في مقدمة ما نطلبه من الله، ومن أهم ما نطلبه من الله، هو المغفرة، نحن بحاجة إلى المغفرة، لا شيء يضرنا كذنوبنا، كمعاصينا، كتقصيرنا، كتفريطنا، لا شيء يسبب لنا أن نخسر الكثير الكثير من رعاية الله، من رحمته، من فضله، مثل المعاصي والذنوب، والتفريط والتقصير، ولذلك يأتي الطلب بالمغفرة من واقع الوعي بهذه الحقيقة، ومن واقع الوعي بخطورة الذنوب والمعاصي على مستقبل الإنسان الأبدي الدائم، الكبير والمهم والعظيم في الآخرة.

 

فنجد في دعاء أنبياء الله: نوح، وإبراهيم، وكذلك يعقوب، وموسى، داوود، وسليمان، وموسى، وعيسى، وزكريا… أنبياء كثر نجد في أدعيتهم في القرآن الكريم التركيز على مسألة المغفرة، على جوانب مهمة يحتاج إليها الإنسان.

 

أيضاً في أدعية نبي الله نوح، مع الدعاء بالمغفرة، الدعاء بالنصر، بعد جهدٍ عمليٍ كبير، تسعمائة وخمسين سنة من الصبر، من العمل، من الجهد، من المثابرة، ويأتي الدعاء بطلب النصر.

 

إبراهيم “عليه السلام”، أدعية متنوعة، منها طلب المغفرة، منها أدعية بالذرية المباركة والطيِّبة.

 

يعقوب “عليه السلام” في محنته الكبيرة، كيف كان دائم الرجوع إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف: من الآية86]، عانى من الحزن الشديد، والمحنة الشديدة، فصبر، وبثَّ شكواه إلى الله “سبحانه وتعالى”، والتجأ إلى الله بالدعاء على طول تلك المحنة التي استمرت لسنواتٍ طويلة؛ حتى فرَّج الله عنه حزنه، وكشف غمه.

 

أيوب “عليه السلام” في معاناته الصحية، التي صبر فيها لدهرٍ طويل، ووقتٍ طويل، والتجأ إلى الله “سبحانه وتعالى” بالدعاء، حتى فرَّج الله عنه.

 

زكريا “عليه السلام”- كلهم هؤلاء من أنبياء الله- عندما التجأ إلى الله في أن يرزقه الذرية الطيبة، حتى في وقتٍ متأخر، فالتجأ إلى الله “سبحانه وتعالى”، واستجاب الله دعاءه.

 

ونجد في دعائهم الالتجاء إلى الله من عمق قلوبهم، من أعماق قلوبهم، التجاء إلى الله التجاءً عميقاً، التوجه إلى الله توجهاً قوياً، توجهاً بالخشوع، والرغبة، والرهبة، إقبال عجيب إلى الله “سبحانه وتعالى”، وكذلك من موقع الثقة بالله، والرجاء لله “سبحانه وتعالى”، لا يأس من رَوْحِ الله، ولا قنوط من رحمته.

 

نبي الله إبراهيم، ذكر الله عنه أنه قال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر: الآية56]، لا قنوط من رحمة الله، لا يأس من رحمة الله “سبحانه وتعالى”، مهما طالت بالإنسان محنته، أو آلامه، أو همومه، أو… مهما كانت الظروف التي يعيشها الإنسان، مهما كان مستوى الصعوبات، والتعقيدات، والتحديات، التي يواجهها الإنسان، لا يأس ولا قنوط من رحمة الله “سبحانه وتعالى”.

 

نبي الله يعقوب “عليه السلام” ذكر الله عنه أنه قال لأبنائه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: من الآية87]، فمهما طالت المحنة، مهما كانت الغمة، مهما كانت التعقيدات والصعوبات، ومهما كان حجم المعاناة، لا يأس من رَوْحِ الله “سبحانه وتعالى”.

 

الإنسان يبقى راجياً لله “سبحانه وتعالى”، رجاؤك جزءٌ من إيمانك الصادق، والإنسان له تجارب في مسألة الاستجابة، كل إنسان له تجارب في مسألة الاستجابة لدعائه، كيف يستجيب الله الدعاء في حالة الكرب والاضطرار، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل: من الآية62]، كم قد تكون الحالات الكثيرة التي توجه الإنسان إلى الله فيها وهو في حالة الاضطرار، الكرب الشديد، الضائقة الشديدة جدًّا، الألم الشديد جدًّا، فتضرع إلى الله “سبحانه وتعالى”، وتوجه من كل أعماق قلبه إلى الله “سبحانه وتعالى”، مستغيثاً، راجياً، متضرعاً، فاستجاب الله له وفرَّج عنه، ولكن الإنسان ينسى.

 

كثيراً ما ينسى من كان من هذا النوع، الذي يلتجئ إلى الله في حالة الاضطرار الشديد، والضائقة الكبيرة جدًّا، ثم عندما يفرِّج الله عنه، عندما يخرج من تلك الحالة الشديدة يغفل، ينسى، يلهو، يعرض.

 

البعض من الناس هكذا حالهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: الآية12]، من حالات اللؤم، من حالات الدناءة، من حالات الكفران للنعمة، من حالات الإساءة إلى الله “سبحانه وتعالى”، والتنكر لفضله، لرحمته، لجميل ما أسداه، أن تتعامل مع الله على هذا النحو: عند الضر الشديد، تدعو الله، تلتجئ إليه، تستغيثه، وعندما يفرِّج عنك، تعرض وتتجه في هذه الحياة وكأنك لم تدع الله ليكشف عنك ذلك الضر، وكأنه لم يكشف عنك ذلك الضر، أصبحت شخصيةً مختلفة، في ذهنك، في نفسك، في مشاعرك، لم تعد ذلك الذي أقبل إلى الله عند حالة الشدة الشديدة، والضر الشديد، تغيَّرت نفسيتك، تغيَّر إقبالك إلى الله، وتنكَّرت لله “سبحانه وتعالى”، واتجهت في واقع حياتك، في أعمالك، في تصرفاتك بما تسيء به إلى الله “سبحانه وتعالى”، حالة إسراف، {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، يتنكَّر لله “سبحانه وتعالى”.

 

البعض من الناس حتى في حالة الشدة تقسو قلوبهم، يزداد يأسهم، يتنكَّرون لله “سبحانه وتعالى”، يفقدون الأمل والرجاء، وهي حالة خطيرة جدًّا، حالةٌ سيئة، لا تنسجم مع الإيمان أبداً، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: الآية9]، ييأس: لا يرجو الله، وكفور: يقنط من رحمة الله “سبحانه وتعالى”، فيزداد قسوةً، ويزداد يأساً، ويكون لذلك آثاره السيئة على نفسه، على تصرفاته، على أعماله، فقد يتجه في واقع حياته لمعالجة مشاكله، وهمومه، وظروفه، بالأعمال السيئة، بالأعمال التي هي معصيةٌ لله “سبحانه وتعالى”، وهذه حالةٌ خطيرة.

 

الشيء الصحيح بالنسبة للإنسان المؤمن: أنه عند كل شدة، وفي كل مشاكله، في كل مشاكله يلتجئ إلى الله “سبحانه وتعالى”، أولاً: من واقع الثقة بالله “سبحانه وتعالى”، والتوكل على الله، والرجاء في الله “سبحانه وتعالى”، وتوجهاً صادقاً، توجهاً بالتضرع إلى الله “سبحانه وتعالى”، وهذا من أهم ما ينبغي أن يكون الإنسان عليه في حالة الدعاء لله “سبحانه وتعالى”، قال “جلَّ شأنه”: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55-56].

 

الدعاء هو عبادة، بل هو- كما ورد في الحديث عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”- مخ العبادة، موقعه في العبادة مهمٌ جدًّا، ونحن نعبِّر عن عبوديتنا لله، وافتقارنا إلى الله، وإيماننا بأنه المدبر لشؤون السماوات والأرض، من خلال الدعاء أيضاً، كما أنه أيضاً صلة تعبِّر عن علاقتك الإيمانية بالله “سبحانه وتعالى”، في التجائك إليه، في مناجاته، في ذكره وشكره، ولهذا يأتي الأمر بذلك والحث عليه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: من الآية60]، توجهوا إليه “سبحانه وتعالى” يستجب لكم.

 

فعندما نتوجه إلى الله “سبحانه وتعالى” ينبغي أن نكون في حالة التضرع، أن نتوجه بتضرع إلى الله “سبحانه وتعالى”، أن نكون في حالة الدعاء في حالة تضرعٍ إلى الله “سبحانه وتعالى”، يعني: ألَّا نتجه في دعائنا بقلبٍ قاسٍ، وعينٍ جافة، وذهنٍ شارد، الحالة التي يتوجه الإنسان فيها بالدعاء إلى الله “سبحانه وتعالى” ومشاعره جامدة، لا خشوع، لا خضوع، لا استشعار للقرب من الله “سبحانه وتعالى”، لا استشعار لواقعك أنك تتوجه في تلك الحالة بالدعاء إلى الله، بالمناجاة لله، بالتخاطب مع الله “سبحانه وتعالى”، فتكون في جوٍ بعيدٍ عن الأدب، أدب المقام، مقام العبد بين يدي ربه “سبحانه وتعالى” وأنت تتوجه إلى الله، فمشاعرك الجامدة، قلبك القاسي، ذهنك الشارد، الذي لم يركِّز حتى معك، لم يركِّز حتى على ما تقول وأنت تدعو، هذه الحالة بعيدة عن الاستجابة لله “سبحانه وتعالى”.

 

مما يميز حالة الشدة، وحالة الاضطرار: أنَّ الإنسان يتوجه فيها بالدعاء من عمق قلبه، ووجدانه، وشعوره، فيكون توجهاً صادقاً، توجهاً يتجه فيه اتجاهاً بالوجدان والمشاعر، وليس فقط باللسان.

 

فالدعاء عندما يأتي كحالة فقط على أطراف اللسان، لا يعيش معها الإنسان بقلبه، بوجدانه، بفكره وذهنه، هي حالة لا مبالاة، تعبِّر عن عدم الاهتمام، عن عدم الجدية، وتعبِّر عن حالة الغفلة لدى الإنسان وهو يقدم الموضوع بشكلٍ عاديٍ جدًّا، هذه حالة في واقع الأمر لا يتعامل بها الإنسان مع الإنسان، إذا أراد منه شيئاً، هو يتعامل بطريقة محترمة، وبإقبال، إقبالٍ في الذهن، إقبالٍ في التعبير، إقبالٍ نفسي، فالحالة التي نتوجه بها إلى الله “سبحانه وتعالى” ينبغي أن تكون بتوجهٍ شعوريٍ ووجدانيٍ وذهنيٍ ونفسيٍ، وفي حالةٍ إيمانية، وبتضرع، بتذلل لله “سبحانه وتعالى”، بخشوع وخضوع لله “سبحانه وتعالى”، بشعورٍ بالافتقار إلى الله، وشعورٍ عميقٍ بالرجاء والأمل في فضله، في رحمته، في كرمه، بتذكرٍ لنعمه الواسعة التي لا تحصى ولا تعد، ومن واقع استجابةٍ عملية.

 

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ادعوه واتجهوا بالاستقامة على منهجه، على دينه، على تعليماته، اتجهوا لتكونوا مصلحين في أرضه، مستقيمين على نهجه، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، مشاعرك لتكن مشاعر حيَّة، فيها حالة الخوف، فيها حالة الطمع والرجاء فيما عند الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، هذا بشارة، وفي نفس الوقت يلفت نظرنا إلى أن نكون من المحسنين؛ ليستجيب الله دعاءنا.

 

الدعاء أيضاً يعبِّر عن اهتمامات الإنسان، فالبعض من الناس مثلاً كل أدعيتهم، أو معظم أدعيتهم تتوجه نحو مطالب هذه الحياة، رغباتهم في هذه الحياة، لا تركز على الجوانب الإيمانية والدينية، ولا على مستقبلهم في الآخرة، فأكثر ما يطلبونه مثلاً: يطلبون الرزق، يطلبون ما يبتغونه من مطالب في هذه الحياة، وينسون ما عدا ذلك، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 200-201]، فتتجه اهتمامات البعض كلها نحو هذه الدنيا، {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، يطلب الرزق، يطلب الصحة، يطلب العافية، يطلب دفع الشر، دفع الضر، مطالب كلها دنيوية، ويقتصر على ذلك؛ لأن كل اهتماماته تتجه فقط إلى ذلك، هذه حالة خطيرة، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، ليس له أي نصيب في الآخرة، هو في الأساس لم يتجه في اهتماماته العملية، ولا النفسية، ولا في حتى دعائه، إلى مسألة الآخرة، كل ما يطلبه هو فقط من أمور هذه الحياة، ومتطلبات هذه الحياة فقط.

 

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، فهو يتجه إلى الله “سبحانه وتعالى” من واقع رؤيةٍ صحيحة، الاحتياج إلى الله “سبحانه وتعالى” في شؤون هذه الدنيا في حدود ما هو حسن، ما فيه الخير لنا في ديننا ودنيانا، {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أولئك قال عنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، ما عاد بش حسنة، آتنا في الدنيا وبس، هؤلاء {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }، ما يحسن به حالنا، ما تستقيم به أمورنا، ما لا يؤثر على ديننا، ما نرتفق به في شؤون حياتنا، تحت سقف: {حَسَنَةً}، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، مع طلب الوقاية من عذاب الله، طلب الخير في الآخرة، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}[البقرة: من الآية202]؛ لأن الدعاء لا بدَّ أن يرتبط به عمل، لا بدَّ أن ينطلق من واقعٍ عملي؛ حتى يستجاب له، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة: الآية202].

 

في شهر رمضان كموسمٍ عظيمٍ للدعاء، فيه فرصٌ مميزةٌ للاستجابة، في ظل الظروف الإيمانية والواقع الإيماني، مع الصيام، مع القرآن، مع الأثر الروحي والتربوي لشهر رمضان في صيامه، وقيامه، وصالح الأعمال فيه، في آثارها النفسية والتربوية في مشاعر القرب من الله “سبحانه وتعالى”، وفيما نعيشه في واقع حياتنا من تحديات، من أخطار، من هموم، من مشاكل، من ظروف، ومنها: حالة الجدب العالمي، الذي شمل بلدنا، هناك جدب على مساحة واسعة من الأرض، على كثيرٍ من بلدان هذا العالم، وأيضاً على بلدنا، شمله هذا الجدب، وهناك معاناة كبيرة ناتجة عن هذا الجدب، هذا الجدب هو واحدٌ من همومنا في ظروف حياتنا ومعيشتنا، تأثيراته السلبية علينا في الأرياف، في الإنتاج الزراعي، في ظروف المعيشة، حتى في توفر مياه الشرب في كثيرٍ من المناطق الريفية، هذه الحالة يجب أن نعود فيها إلى الله “سبحانه وتعالى”، أن نتضرع إلى الله “سبحانه وتعالى”، ضمن اهتماماتنا، نطلب من الله المغفرة، نطلب من الله الهداية، نطلب من الله النصر، نطلب من الله العون، نطلب من الله التوفيق، نطلب منه “سبحانه وتعالى” الرزق، الخير، الفرج، نطلب من الله متطلباتنا الأساسية على المستوى العام، وعلى المستوى الشخصي، كل إنسان له همومه، له مشاكله، له معاناته، له ظروفه الخاصة، ومشاكله الخاصة أحياناً، نلتجئ إلى الله في كل ذلك، ندعوه خوفاً وطمعاً، نرغب إليه، نثق به، نتوكل عليه، نلتجئ إليه، ومن واقع الاستجابة العملية، كتوجهٍ نتوجه به في واقعنا على أساس الاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، نتوجه بالتوبة الدائمة إلى الله “سبحانه وتعالى”، وصف الله عباده المؤمنين الصادقين المتقين بقوله تعالى في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ}[التوبة: من الآية112]، {التَّائِبُونَ}، يتوبون إلى الله باستمرار من تقصيرهم، من ذنوبهم، وبالرجوع العملي.

 

من أهم ما يجب الرجوع فيه على المستوى العملي: التخلص من الحقوق والمظالم، إخراج الزكاة، وللأسف فالكثير من المزارعين هم ممن يبخلون بإخراج الزكاة، وهذا يؤثر، يؤثر على البركات، يؤثر على الأرزاق، حالة الرجوع إلى الله يجب أن تكون من الجميع، من المسؤولين أيضاً؛ لأنها تصدر من جانبهم الكثير من المظالم، الكثير من المعاصي، ومن المواطنين، نحن كلنا معنيون بالرجوع الصادق إلى الله، بالتوبة، بالدعاء، بالتضرع، بالإنابة، بالاستغفار، بالالتجاء إلى الله، وبالرجوع العملي في إصلاح واقعنا العملي، لتكن حالة الشدائد مفيدةً لنا في أثرها في عودتنا إلى الله، وفي رجوعنا العملي، الذي نصلح به أعمالنا، نفتش فيه عن جوانب التقصير لدينا، نحرص فيه على أن نحقق الاستجابة المتكاملة لله “سبحانه وتعالى”، في كل مجالات حياتنا، فنتضرع إلى الله، ونلتجئ إلى الله.

 

حالة البأساء والضراء من أهم ما فيها أن تكون دافعاً للتضرع وللعودة إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف: الآية94]، هنا نلاحظ قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يتذللون لله، يخشعون لله، يخضعون لله، يعودون إلى الله بالتوبة والإنابة والرجوع العملي، بدلاً من أن تكون الحالة هي قسوة القلوب، أو اليأس والقنوط، التي هي حالة خطيرة جدًّا على الإنسان.

 

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام: الآية42]؛ لأنها هي الحالة الصحيحة، التي تنفعهم، التي تنقذهم، التي تخرجهم مما هم فيه من الضيق، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: الآية43]، هذه هي الحالة الخطيرة جدًّا: أن تقسو القلوب، وأن يزين الشيطان للناس أعمالهم، فيستمروا على حالة التقصير، يستمروا على أسباب المؤاخذة، والعقوبة، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أن يستمروا على الأسباب التي أدَّت إلى ذلك.

 

فالحالة الإيمانية، الحالة الصحيحة، الحالة الإيجابية المفيدة النافعة: هي بالرجوع إلى الله على المستوى العملي، وبالتضرع، بالدعاء، بالاستغفار، ليتوجه الجميع في هذه الليالي المباركة بالتضرع، بالدعاء، بالاستغاثة، بالالتجاء إلى الله “سبحانه وتعالى”.

 

ثم تأتي صلاة الاستسقاء، مثلاً: في نهاية كل أسبوع؛ حتى يفرِّج الله، لكن لا تكون يتيمة، لا تكون صلاة الاستسقاء يتيمة، الناس يتعودون على أن يصلوا فقط صلاة الاستسقاء، صلاة الاستسقاء ينبغي أن يتقدمها الاستغفار، أن يتقدمها الذكر لله “سبحانه وتعالى”، على نحوٍ مستمر، في الليل والنهار، عقب الصلوات، والإكثار من الاستغفار، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10-11]، والتوجه على أساس الرجوع العملي، الرجوع العملي، والاهتمام بالزكاة، والاهتمام بالصدقات للفقراء والمساكين، والاهتمام بالتوبة، والتخلص من المعاصي، والكف عن الذنوب.

 

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يفرِّج عنا، وأن يَمُنَّ علينا من واسع فضله، وأن يغيثنا بغوثه، إنه سميع الدعاء.

 

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

مقالات ذات صلة