الإمام الهادي عليه السلام .. وثورة التغيير في اليمن

أ. عبدالملك الشرقي

 

كانت اليمن في القرن الثالث الهجري تعيش أسوأ حالاتها .. إذ كانت تصبح على الفتن وتمسي على المحن بسبب الدويلات المختلفة والإمارات المتعددة التي شطرت اليمن وجزأته إلى أقاليم ، وطالما نشبت فيما بينها حروب مستعرة أثقلت كاهل ابنائه ، وشتت حياتهم .. وآلت بالبلاد إلى حياة مأساوية في شتى جوانبها الديني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ..

 

وكان للحكام المتسلطين آنذاك دورٌ في فرض الثقافات وترسيخ التقاليد وترسيم التوجه .. الأمر الذي يجعل اليمن على هاوية سحيقة ، ومنعطف خطير ، إذ أن كل تلك الدويلات المفروضة تحمل إما ديناً مشوهاً أو كفراً صريحاً .. وكلاهما يقضي على هوية اليمن ويمحق فطرة أبنائه ..

 

وكان من أبرز تلك الدويلات :

 

اليعفرية : امتد نفوذها على عدد من مناطق اليمن ومخاليفها من شبام وصنعاء إلى حضرموت أحياناً ما عدا تهامة ، وكان ولاؤهم الإسمى للعباسيين ..

بنو زياد : وقد شملت سلطتهم كامل تهامة اليمن من حلي بن يعقوب شمالاً ومروراً بمنطقة الحديدة وزبيد وتعز وإب ولحج وعدن وأبين وحضرموت وحتى منطقة الشحر في أقصى الجنوب الشرقي لليمن ، وقد بنوا مدينة زبيد وجعلوها عاصمة لهم .. وكان المذهب السني سمة لهم ..

المطرفية الباطنية: وهي فرقة منشقة عن الدولة الفاطمية الاسماعلية ..وقد قاد دويلتها في اليمن “علي بن الفضل” ، وكانت عاصمته “مذيخرة” في إب .. ظهر في اليمن سنة ثلاث وستين ومائتين وتقَّوت شوكته، وأعلن بالكفر، حتى روي أنه كان في عنوان كتبه إلى أسعد بن يعفر : من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد بن أبي يعفر، وتظهر بمذهب المجوس، وأمرهم بنكاح الأمهات والأخوات، وشرب الخمر وأمر من كان معه أن يسلموا إليه الأموال والحرم، فيخرجوا إليه من جميع ما في أيديهم فهرب منه جماعة، ولحقوا ببلدانهم، وثبت هو ومن أقام معه على الكفر ..

المجبرة : ويظهر أنه لم يكن لهم نشاط سياسي ، وإنما كانوا جماعات هنا وهناك في مختلف مناطق اليمن .. يشتغلون بالتعليم لا سواه .. وقد ناظرهم الإمام الهادي “ع” عندما افتتح صنعاء ، ولم تَطُل تلك المناظرة ، لأن الإمام الهادي حسمها ببديهيته الفذة عندما سألَ : ومن العاصي .. جواباً على من سأله : ما تقول في المعاصي .. فبقوا متحيرين في الفكر إن قالوا: العاصي الباري كفروا، وإن قالوا: العاصي من المخلوقين وافقوا كلام الهادي -عليه السلام-، فلما لم يجدوا جواباً دخلوا في مذهبه المنور بتسعة أحرف ..

 

كانت هذه أبرز الاتجاهات السياسية والمذاهب الفكرية التي امتدت نفوذها في اليمن ، وكان لها دور في تفتيت اليمن ..بسبب توجهها اللاديني .. والذي يخلو من العدالة الربانية والقيم الإلهية .. وإنما نفوذٌ من أجل السيطرة والتوسع والغلبة بلا دستور عادل أو قوانين منصفة .. ولذا فقد اشتدت الفتن الناشبة بين القبائل بسبب الولاءات ، فاستعرت الحروب ونُهبت الأموال ، وانتُهكت الاعراض ، وكثر القتل ، وعطلت الشرائع .. وأصيبوا على إثر ذلك بقحط شديد وجفاف واسع .. فغلت الأسعار ، وماتت المواشي ، وفاضت الآلام وقلَّتِ الحِيَلُ وتاهت الآراء وانعدم الرأي ..

 

وقد حدا ذلك بأبي العتاهية “عبدالله بن بشر” – أحد ملوك اليمن – أن يجد حلاً لهذه الشدة الكاظمة على انفاس اليمن .. فكان الحلُّ الذي توصل إليه -بعد تفكير عميق ومشاورات طويلة مع رؤساء القبائل – أن يتم استدعاء رجلٍ من أهل البيت “ع” إلى اليمن ، على أن يعينوه على إقامة الحق وبسط العدل ، ودرء الفتن وجهاد الظالمين .. وكانت الأنظار تتجه إلى الإمام الهادي يحيى بن الحسين “ع”.. لانتشار نوره واشتهار فضله ، فتم استدعاؤه من جبال الرس بالحجاز .. فكان دخوله إلى اليمن للمرة الأخيرة في السادس من صفر 284هـ ..

 

وهنا نقف أمام تساءل حثيث .. مفاده :

 

كيف استطاع الإمام الهادي “ع” أن يشيد دولته الإسلامية ، ويغير في الواقع اليمني .. رغم التعقيدات المناطقية ، والتداعيات الفكرية المتشابكة في أرجاء البلاد ؟

 

ومع أن الجواب بديهي لمن يعرف طبيعة البلاد وحقيقة أهلها .. إلا أنه لابد من التنويه إلى تلك الأسس والمعايير الثابتة لنسقطها على واقعنا اليوم .. وبالتالي نعرف موطن الصواب ومكامن الخلل ..

 

وقبل أن نشير إلى تلك الأسس في مجال التغيير .. ننوه إلى أن الإمام الهادي “ع” حول الدولة الإسلامية من نظرية إلى واقع حيٍّ ، وبالتالي أثبت نجاح الرؤية الإسلامية فيما يتعلق بإمكانية التطبيق على أرض الواقع .. وهذا يَرُدُّ مزاعم “العلمانية” من أن الإسلام قاصر عن بناء الدولة ، وأنه لا يمكن الخروج من الصراعات المعاصرة وبناء الدولة العادلة إلا من خلال الفصل بين الدين والدولة .. ومن هنا .. فإن اختفاء الدولة الإسلامية اليوم ناتجٌ عن تداعيات خارجية وليس من اختلال النظرية الإسلامية .. وذلك أن أعداء الإسلام عبر التاريخ لا يريدون أن يُطبق الإسلام على أرض الواقع .. فقاموا بالهدم في أوساط المسلمين من خلال تشويه العقيدة وتعطيل الفكر وتبديل الثقافة ، وزرع الفتن ، وافتعال الصراعات ، وخلق النزاعات .. وغيرها من الافتعالات .. حتى صوروا الإسلام بين نظريات انتهى وقتها وباد أهلها ، وبين تطبيق مشوَّهٍ خالٍ من القيم والإنسانية ..

 

ولو أنهم تركوا متنفساً للإسلام لوجد طريقه لبناء الدولة الإنسانية العادلة .. ولأثبت الخلل الناتج عن نظرية ” فصل الدين عن الدولة ” .. والتي إن ظهرت أنها ناجحة نسبياً إلا انها ظهرت على مشهد الدول الغربية بسبب الحماية الداخلية والخارجية بعد أن تهاوت في الازمنة الماضية ..

 

وهنا نستعرض أهم تلك الأسس في مجال التغيير :

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

 

تعتبر هذه الركيزة أم المبادئ الإسلامية التي تحافظ على طهارة المجتمع واتزانه من أي انحراف قد يطرأ على مستوى الفرد والمجتمع .. فأسلوب التذكير المستمر بطرقه المتعددة إلى أسلوب الردع هو من أجل فرض المعروف وطمس المنكر .. وبالتالي فإن أي تهاون في هذه الفريضة قد يقلب الموازين في المجتمعات فيتحول المعروف منكراً والمنكر معروفاً .. بسبب أن أبناء المجتمع قد ألفوا المنكر وجهلوا المعروف .. فيتسلط الأشرار ويختمل الأخيار ، وتكثر الموبقات وتقل الخيرات .. إلى غيرها من الآفات .. وقد كان الإمام الهادي “ع” يشدد في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتهاون في شيء منه .. وكان يدعو الناس بقوله : ( أيها الناس ، أدعوكم إلى ما أمرني الله أدعوكم إليه ، إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما جاءنا به الكتاب اتبعناه ، وما نهانا عنه اجتنبناه ، وإلى أن نأمر نحن وأنتم بالمعروف ونفعله ، وننهى نحن وأنتم عن المنكر جاهدين ونتركه ) ..

 

وقد تركزت وسائل “الامر بالمعروف والنهي عن المنكر” على عدة جوانب .. أهمها :

 

جهاد الظالمين .. وقد كانت أغلب وقعاته مع القرامطة الباطنية ، لكونهم يدعون إلى فكرهم المنحرف .. الذي ينتهي إلى تعطيل الدين ، وفرض المنكرات من الزنا والسفور وشرب الخمور ونحوها .. وكذلك مع الدعام بن ابراهيم .. والذي كان ولاؤه في بادئ الامر للدولة العباسية ، لكنه كان يشيع الفواحش والمنكرات .. قال العلوي صاحب سيرته : ( ولقد سمعت من أثق به أنه كان في معسكر الدعام في “بيت ذؤد” اربعمائة امراة فاجرة يظهرون الفجور علانية لا يستترون بذلك ، بل يتحاكم العسكر فيهن إلى سلاطينهم وعمالهم ، وكانوا كل عشية يجتمعون إلى باب سلطانهم الفاسق فيلعبن بين يديه ، وينشرن شعورهن ، ويبدين زينتهن ، ويظهرن محاسنهن ، ويلبسن أرق ما يقدرون عليه من الثياب ليبدو ما خفي من أبدانهن ، فيأتي العسكر فإذا هوى الرجل منهن واحدة دفع إليها دراهم بحضرة من يحضر معهم ، فلعلها لا تروح إليه تلك الليلة ، فإذا أصبح أتى إلى السلطان وأعلمه أن ملعونته لم ترح إليه ، وقد أخذت دراهمه ، فيأمر سلطانه عند ذلك بأدبها ، وبأن تصير إلى صاحبها ) ..

إخماد الفتنة بين القبائل .. وكان الإمام الهادي “ع” لا يصل إلى جهة وبين أهلها ثارات حتى تنطفئ الفتنة بين القبيلتين ببركته .. وكان يولي هذا الجانب اهتماماً بالغاً ، لأن الثارات بين القبائل والبغضاء فيما بينها تولِّد أشنع المنكرات من سفك الدماء وهتك الاعراض ، ونهب المنازل ، وأخذ المحاصيل .. وغيرها من القبائح .. فكانت القبائل ببركة إصلاحه تنعم بالأمن والإستقرار فيما بينها .. وكمثال على تلك القبائل : سعد والربيعة من قبائل خولان ، كان أول صلح يقوم به الإمام الهادي “ع” بينهما أثناء مقدمه إلى صعدة بعد أن كان بينهما فتنة عظيمة ، فني فيها الرجال وذهبت فيها الأموال، وقحطت البلد وجدبت الأرض ..

 

ج- تربية الشباب والشابات .. وكان الإمام الهادي “ع” يلاحظ على سلوك الشباب والشابات .. فيأمر الشباب بالتزام الآداب الدينية حتى في المظهر ، ويأمر النساء بالحشمة والاستتار عن الاجانب ، وفَرَضَ عليهن جلابيب تغطي كامل جسمها إن خرجت من منزلها ..

 

وكمثالٍ على تربيته للشباب ما رواه العلوي صاحب سيرته ، قال : (جاء رجل له طرة وشعر .. فقال : أريد أن أبايعك [يابن رسول الله].. فرد عليه الهادي بقوله : اذهب فاحلق هذا الشعر ثم ارجع فإنا لا نبايع أهل هذا الزي .. فمضى الرجل فحلق شعره ثم أتاه فبايعه ) ..

 

وكان لهذه التربية الفضل الأكبر في بقاء المجتمع اليمني إلى هذا الزمان أكثر التزاماً وحشمة بالنسبة للدول الإسلامية الاخرى .. الذي تميع فيها الشباب ، وتهتكت فيها النساء ..

 

اختيار الولاة ..

 

يُعتَبرُ الولاة واجهة الحاكم .. وبالتالي فما يحصل منهم من فعلٍ – حَسَنٍ أو قبيحٍ – فإن الناس ينسبونه إلى من ولَّاهم.. حتى وإن ادعى الحاكم أنه لا يعرف بما جرى ، أو أنه لم يأمر بذلك القبيح .. فإن ذلك لا يعفيه من الاتهام ، لأن الناس يُقيِّمون الحاكم من خلال أتباعه .. فإذا ما أفسدوا ولم تتخذ إجراءات حاسمة من قِبَلِ الحاكم عليهم بالعزل واختيار الأكفاء المؤمنين بدلاً عنهم ، فهذا يجعل الحاكم في دائرة الاتهام من غير نظر إلى أي اعتبارات أخرى ، وذلك لأن الولاة والجند هم المتولون لأمر الناس فلابد أن يتوفر فيهم الدين والامانة والورع وإلا سلكوا طريق الجور والظلم بين الناس ..

 

من هنا .. نلاحظ أن الإمام الهادي “ع” كان ينتقي الولاة ، ويتخير الصالحين بالدرجة الأولى من غير نظر إلى المحسوبيات الأخرى .. وبعد ذلك يُشرف عليهم بنفسه ، ويكثر الوعظ والإرشاد لهم .. وهذا ما جعل الناس يلتفون حوله .. بعد أن رأوا من عماله الصلاح في شتى أعمالهم ..

 

ويظهر هذا من خلال عهده الذي بعثه إلى ولاته على المخاليف .. فمما قاله فيه :

 

( فانظر أعانك الله وأحاطك إذا وصلت إلى البلد الذي وجهتك إليه أن تدخله بالسكينة والوقار ، والذكر لله الواحد الجبار ، وأمر بمنزل يكترى لك كراء فاسكن فيه ولا تجشمن أحداً من أهل البلد من مؤونتك شيئاً قليلاً ولا كثيراً ….. ) إلى أن قال “ع” ( واعلم أن الله تبارك وتعالى المطلع على فعل كل فاعل ، والمجازي على عمل كل عامل ، وذلك قوله تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .. ) ..

 

وقد كتب الدعام بن إبراهيم إلى الإمام الهادي “ع” كتاباً .. يسأله أن يوليه البلد الذي هو فيها .. فرد عليه الإمام الهادي “ع” بقوله : ( لا والله ولا ساعة واحدة ) .

 

الاهتمام بالتعليم ..

 

لا يمكن لأي إنسان أن يُغيّرَ في مجتمع جاهل ، لا يميز بنظره ولا يدرك بعقله ، ولا يفهم الأمور على حقيقتها ، ولا يعقل من الأشياء إلا لغة المال والقوة والمصلحة .. فقد أعيت هذه المجتمعات المادية حتى أنبياء الله رغم اكتمالهم ووضوح حججهم .. وطالما بينوا لمجتمعاتهم أن دعوتهم بمنأى عن الماديات .. {أقُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } ، {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ … } .. وبالتالي .. فإن التعليم الديني هي اللَّبنَة الأهمُّ لخلق مجتمع واعٍ ، ملتزمٍ بأمر الله تاركٍ لنهي الله .. مستشعرٍ للمسؤولية ، قائمٍ بالواجب من خلال ارتباطه بالله وخوفه منه .. لا من خلال التمظهر والمصلحة .. وماعدا ذلك فهو خبط عشواء ، لأن الثقافة لا تغني مع انعدام الأساس العلمي ، والبناء المعرفي ..

 

ولذا .. فإن طلب العلم يعتبر من أكبر الفروض ، وصاحبه مجاهد .. كما أخبر الإمام الهادي “ع” .. روى أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن أبي عبد اللّه اليمني رحمه اللّه قال: (كنت أسمع الهادي عليه السلام كثيراً يقول: أين الراغب، أين من يطلب العلم، إنما يجينا مجاهدٌ راغبٌ في فضله متحرٍّ ما عند اللّه لأهله، ولعمري إنَّه لأكبر فروض اللّه على عبده، وأحق ما كان من تقدمه يده، ولكن لو كان مع ذلك رغبة في العلم وبحث عنه لصادفوا من يحيى بن الحسين علماً جماً).

 

وبالتالي .. فلا يُستهانُ بهذا الجانب .. ولو أن يتعلم الناس المبادئ من دينهم ، كأن يتعلموا الطهارة والصلاة ، وإتقان قصار السور ، وطرفاً من معرفة الله .. فاليسير من ذلك قد يكون عوناً لهم على معرفة الله وإدراك الحقيقة ، والجهاد في سبيل الله .. وغيرها من التكاليف الشرعية ..

 

وهذا ما أوصى به الإمام الهادي “ع” ولاته على المخاليف بعد استقرارهم فيها .. قال “ع” : ( فإذا قر قرارك فليكن أول ما تبتدئ به إن شاء الله من العمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعلم الناس إقامة صلواتهم والإتمام لركوعهم وسجودهم ، ومن علمت منهم من بواديهم ممن يرد عليك أو ممن معك في البلد أنه لا يفهم من القرآن ما يصلي به فعلمه ما قدر عليه وقوي من مفصل القرآن ، وعلمهم ما قدرت عليه من أصول الدين ، وفضل الجهاد والمجاهدين ، ومعرفة الحق والمحقين ، والولاية لمن أمر الله بولايته من أهل بيت نبيه الطاهرين ) ..

 

بالإضافة إلى ان العلم الشرعي يحصن المجتمع من أي ثقافة منحرفة أو فكر مسموم قد يسيطر على المجتمع فيجعل منه مجتمعاً متبلداً ، لا يفهمُ ديناً ولا يدرك حقيقة .. وقد عانى الإمام الهادي “ع” من هذا المجتمع الذي تفشى في جزء منه فكر الباطنية والقرامطة .. بينما تفشى في أكثر جهاته عقيدة المجبرة .. مما حدا بالإمام أن يناظرهم ويردَّ عليهم .. وقد اشتمل مجموع الإمام الهادي الأصولي على ردود مفصلة على المجبرة .. حتى يحصن المجتمع من هذا الفكر الدخيل ..

 

الاهتمام بالفقراء :

 

الاهتمام بهذه الطبقة من المجتمع تعتبر من أساسيات التغيير في المجتمع ، والحفاظ عليهم من أي انحراف ، لأن هذه الطبقة في الغالب تُستدرج من قِبَلِ الأعداء بقليل من المال ليتم استغلالهم في أعمال منحرفة ، تؤدي في الغالب إلى الإضرار بالمجتمع ..

 

ولذا .. فالاهتمام بهم ، وإيجاد حل اقتصادي يكفل شيئاً من حاجتهم جدير بالاهتمام لمن يريد الحفاظ على المجتمع من أي اختلال أو انحراف .. وقد كان الإمام الهادي “ع” يهتم بهم غاية الاهتمام ، إذ كان يطعم الفقراء والمساكين ويأمر بإدخال الأيتام والمساكين عليه فيفت لهم الطعام بيده ويأكل معهم ، كما كان يأمر صاحب بيت المال أن يطعم الطوافين عليه من الفقراء والمساكين في الصباح والمساء، وأمر لهم بكسوة من بيت المال شتاء وصيفاً .. وكان يقول لغلامه: أوصل إلي كل ضعيف، ولا تحرقني وتحرق نفسك بالنار فقد نسخت الأمر من عنقي إليك..

 

ومع أنه كان لا يملك من الموارد ما يرفد به خزينة الدولة إلا أنه وضع نظاماً اقتصادياً من خلال الزكاة يسد به كافة الاحتياجات من إعطاء الفقراء إلى رفد المجاهدين إلى اعطاء المرتبات وإصلاح الطرقات والإنارة وغيرها من احتياجات الدولة ..

 

وفي عهده لولاته على المخاليف ما يكشف جزءاً من النظام الزكوي الذي وضعه .. قال “ع” : ( وأخرج من ذلك “الزكاة” ما تحتاج إليه من مؤنتك وأسبابك ومؤنة من تحتاج إلى عونه وقيامه معك ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل لك إخراج ذلك بالمعروف .. ثم انظر أن تكتب أسماء فقراء البلد الذي أنت به ومساكينه ، ولا تكتب من أهله إلا كل من لا حيلة له إلى التحريف والاستغناء عن ذلك ، فإنك إن كتبت جميع من يحتاج ومن ليس له حيلة أضررت بمن لا حيلة له ، فآثر أهل المتربة ، واهل المتربة من لا حيلة له .. وأزح من كان له حيلة في الرزق حتى يوسع الله علينا وعليه فنصير ما أمرنا الله بتصييره إليهم من أموال الله تبارك وتعالى إن شاء الله ، فإذا أثبت عدتهم فاعزل لهم ربع جباية بلدهم ، ثم اكتب لي بعددهم وبكل ما جعل الله لهم حتى أكتب إليك برأيي وكيف تفرقه إن شاء الله تعالى ) ..

 

الإصلاحات العامة ..

 

رغم انشغال الإمام بجهاد الظالمين ، وترتيب المعسكرات ، وتدريب الجنود إلا انه لم يترك الاصلاحات التي تحتاجها إليها الدولة حتى في أبسط الأمور .. فقد كان يأمر بإصلاح الطرقات ، وإنارة الطريق ، وتوفير الدواء للمريض .. وغيرها .. وكان هناك عدة اتجاهات اهتم بإصلاحها لكونها دعائم أساسية في بناء الدولة الإنسانية وإصلاح المجتمعات .. ومن أهمها : الإصلاح القضائي .. والذي يعتبر أهم جهاز في الدولة وأولاها بالاهتمام ، لأنها تعني بفصل المظالم بين الناس ، وإنصاف المظلوم من الظالم ، وإعطاء كل ذي حق حقه .. وبالتالي يحتاج إلى عناية تامة في ترتيب أوضاعه بما يجعله مكاناً لتحقيق العدل وإنصاف الناس من انفسهم وإلا فلا معنى لقيام دولة إسلامية لا يَجِدُ فيها الضعيف معيناً ولا المظلوم ناصراً .. ولذا .. فالإمام الهادي “ع” كان يولي هذا الجانب جل اهتمامه ، وأغلب وقته ، وكان يقوم بمهمة القضاء بنفسه أو يكلها إلى من يثق بأهليته التامة وقدرته على الفصل بين المظالم .. قال العلوي في سيرة الهادي : ( ورأيته ليلة وقد صلى في المسجد ثم انصرف ، فلما قرب من منزله صاحت امرأة : يا بن رسول الله إني مظلومة ، فوقف يسمع كلامها ، ودنت منه وكانت عجوزاً ، فأومأ إليه بعض غلمانه يبعدها ، فقال له يحيى بن الحسين : سبحان الله ما أنت إلا جبار ، ثم صاح بأبي جعفر محمد بن سليمان فقال له : انظر في أمر هذه المرأة فانصفها من خصمها ، فمضى معها أبو جعفر ، وصار الهادي إلى الحق إلى داره ونحن معه ، ثم جلس فصاح بغلام كان يجلس على الباب فقال له : ألم أقل لك أوصل إليَّ كل ضعيف ، ويحك أنتم مسلمون ؟ أوصلوا إليَّ كل ضعيف لا يصل إلا بكم ) .. بالإضافة إلى الاهتمام بالجانب المتعلق بالعقوبات وبالأخص السجون .. والذي يعتبر بيتاً للتأديب والتربية لا مكاناً للتضييق .. وقد كان الإمام الهادي “ع” يقوم بالإشراف المباشر على السجون .. قال العلوي : (مر يحيى بن الحسين يوم الجمعة بحبس ، فنزل عن فرسه ، ووقف الناس بباب الحبس ، فدخل وجلس ونظر إليه .. وأمر بقمه وكنسه وتنظيفه ، وتعاهد أهله بالماء والطعام ، وأمر لهم بوطاء ، وأمر بحل القيود عن المقيدين في وقت كل صلاة .. وكانت قيودهم حلقة بمسمار وحلقة بقفل .. ويفتح بمفتاح في وقت كل صلاة ) ..

مقالات ذات صلة