إمام مسجد في بريطانيا / يجب استعادة الحج من الرأسمالية المفرطة.. هكذا جعلت الفقراء يعانون والأغنياء يتغطرسون

عمران نت/2سبتمبر 2017م

أدت المشروعات التجارية والعمرانية الضخمة في المشاعر المقدسة إلى تيسير الحج لملايين المسلمين الذي يلتقون بمكة في أكبر تجمع بشري سنوي، لكن ألم تؤد المبالغة في النزعة الرأسمالية والاستهلاكية إلى الانتقاص من روحية التجربة ومن المساواة التي تجسدها هذه الشعيرة.

في مقال مؤثر يستعرض قاري عاصم: إمام مسجد مكة في مدينة ليدز البريطانية وكبير المُحرِّرين في موقع Imams Online عظمة تجربة الحج وتأثيرها الهائل على النفس، داعياً في الوقت ذاته لمراجعة رأسمالية الحج المفرطة التي جعلت الأراضي المقدسة مكاناً يتباهى فيه الأغنياء بثرواتهم ونفوذهم فخسروا الهدف الأول من هذه الرحلة المقدسة.

يقول عاصم في المقال الذي نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية: “بدأ الحُجَّاج المسلمون هذا الأسبوع مناسك الحج التي تستمر 5 أيام. والحج هو أكبر تجمُّع سنوي للناس في العالم، والذي تزايدت أعداد البشر فيه من 30 ألف حاج في الثلاثينيات إلى نحو مليوني حاج هذا العام”.

ويضيف: “يسافر المسلمون من مختلف أنحاء العالم إلى مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية، مهد الإسلام، وتركيزهم مُنصبٌّ على شيءٍ واحد فقط: استحضار الله في مركز حيواتهم”.

المسيحيون واليهود

ما يجعل الحج مميزاً للغاية هو التقاء المسلمين من كل البلدان معاً. فهي تجربةٌ شخصية، وأيضاً جماعية. والمسلمون لا يسيرون في الحج على خطى النبي محمد فحسب، لكنَّهم أيضاً يسيرون على خطى نبي الله إبراهيم وعائلته، العائلة التي يُعظِّمها المسلمون، واليهود، والمسيحيون على حدٍ سواء.

يقول الكاتب: “الحج هو أحد أركان الإسلام، وفرضٌ على المسلمين تأديته مرةً في العمر لمن استطاع تحمُّل ذلك بدنياً ومادياً. وبالنسبة للعديد من المجتمعات الحديثة، في الغالب يُنظَر إلى الحج الديني باعتباره مفهوماً أجنبياً. لكن بالنسبة لي، الحج إلى مكة هو رحلة مُبجَّلة طال التوق إليها”.

ويضيف: “إنَّه لمشهدٌ أخَّاذ أن ترى بحر الحُجَّاج في المسجد الحرام بمكة وهم يطوفون حول الكعبة، هذا البناء الأسود مُكعَّب الشكل الذي يعتبره المسلمون بيت الله، ويُولِّون وجوههم نحوه 5 مراتٍ في اليوم حين يُصلَّون من أي مكانٍ في العالم.

الحج رحلةٌ إنسانية ملحمية، وتأكيدٌ كبير على مفاهيم الإيمان، والمجتمع، وشجاعة البشر العاديين. وهو أيضاً تجربةٌ بالغة التحدي؛ ففيه يسير الحاج في ظل حرارةٍ حارِقة، ويكافح ليجد “بقعةً مثالية” للصلاة والدعاء وسط مئات الآلاف الذين يفعلون الشيء نفسه، ويصطفون من أجل الطعام والحاجات الأساسية.

يقول إمام مسجد مكة في مدينة ليدز: “أجدُ رحلة الحجِ اختباراً حقيقياً للصبر، وضبط النفس، والتواضع، والأخوة، ومدرسةً حقيقية لتطبيق الأخلاقيات الاجتماعية! فبالرغم من التحديات البدنية والعاطفية، أرى كل عامٍ أناساً يبكون فرحاً وحزناً، ويُصلّون طوال الليل، ويظهرون متجدِّدين روحياً وكأنَّهم قد بُعِثوا من جديد، ويُحقِّقون شعوراً بالسلام والوئام”.

قطعتا قماش

وفي أثناء الحج، يقيم الحُجَّاج في نُزُلٍ مستأجرة في صحراء مفتوحة، الأمر الذي قد يُمثِّل تحدياً حقيقياً للمسلمين الغربيين. ويُغطِّي الرجال – بغض النظر عن خلفيتهم، ولون بشرتهم، وطبقتهم الاجتماعية، وعمرهم – أنفسهم بقطعتين من القماش الأبيض غير المخيط، الذي يُفرَض عليهم ارتدائه من أجل هذا الحدث تعبيراً عن التماثل والمساواة.

وقمة الحج الروحية هي يوم عرفة، حين يذرف ملايين الناس الدموع بينما يتضرَّعون إلى الله طلباً للمغفرة. ويُعَدُ ترديد كل هؤلاء الناس المتنوعين، من الأوروبيين الشُقر إلى مسلمي غرب إفريقيا، ومن المُسنِّين الهنود إلى الأطفال الإندونيسيين – لتكبيرات الحج: “لبيك اللهم لبيك”، ببساطة تجربةٍ مهيبة لا تُنسى.

غطرسة

وبالنظر إلى أهمية الحج الدينية الكبيرة بالنسبة للأفراد والمجتمعات، فإنَّني أرقب بشعورٍ بسيط من عدم الارتياح التعدِّي المتنامي أكثر من أي وقتٍ مضى للمادية على هذه المناسبة.

إذ تتأثَّر روحانية الحج بالمادية المُفرِطة حول المسجد الحرام. فبرج الساعة، ثاني أطول مباني العالم، يقف مُنتصِباً بغطرسةٍ عند عتبة المسجد، بينما يحاول الحجيج تكريس أنفسهم لربهم وهم يرتدون أبسط الملابس، ورؤوسهم محنيةٌ في تضرُّع.

ويُمثِّل أيضاً رمزاً للتفاوت المتزايد بين الفقراء والأغنياء في أقدس مدن المسلمين، ويطرح في عقول الحجاج تساؤلاتٍ عن قيم المساواة والبساطة التي فرضها الإسلام.

طمس التراث

يقول الكاتب “إنَّني أُشيد بجهود الحكومة السعودية التي أنفقت المليارات لتوفير تجربةٍ مُريحة ومُمتعة للحجاج، لكنَّني أيضاً أتألم بسبب الرأسمالية المُفرِطة التي تزحف إلى المدينة، طامِسةً في طريقها التراث الديني والتاريخي الذي جرى الحفاظ عليه لقرون.

والمفارقة هي أنَّ الحجاج ربما تركوا ناطحات سحاب لندن وشانغهاي أو صخب وضجيج نيويورك وجاكرتا وراءهم لأخذ قسطٍ من الراحة من تلك المادية، واكتشاف الخالق في بساطةٍ وتبسيط، لكنَّ شعيرة التقشُّف البسيطة التي تُميِّز الرحلة تتحوَّل إلى أعمالٍ تجارية باهظة، وذلك في ظل مراكز التسوُّقٍ المُثقلة بالبضائع والفنادق المبالغ فيها.

الفقراء يعانون وهذا ما يفعله الأغنياء

يقول الكاتب: “لقد غيَّرت المُجمَّعات الشاهقة الارتفاع والفنادق الفخمة تجربة الحج بالنسبة للحجاج الأغنياء، في حين يجد الحجاج الأفقر صعوبةً متزايدة لتحمُّل تكاليف السكن.

كما أن فرط الاستهلاكية في أثناء موسم الحج يشكل إلهاءً عن الصلاة، والتدبُّر، وتعزيز قيمة الأخوة والتضامن عبر قضاء الوقت مع الرفاق المسلمين من مختلف أرجاء العالم.

إنَّ البنية التحتية المتينة، والعمارة القوية، والعمل التجاري أمورٌ مهمة بالنظر إلى ملايين الحجاج الذين يتوافدون على مكة، بيد أنَّ التوازن بين التجارب الروحية وإضفاء الطابع التجاري لا يجب أبداً أن يتحول إلى مصلحة الأخير.

إذ تقضي الرأسمالية المُفرِطة والانغماس الزائد في الرغبات بشكلٍ فوري على المساواة الاجتماعية والاقتصادية التي يهدف الحج إلى إبرازها.

ويقول إمام مسجد مكة: “يساورني القلق من أن تصبح رحلة الإيمان والزهد في السنوات القادمة مجرد شعيرةٍ مادية، وعطلة مسلية، وساحة استعراض لبالغي الثراء كي يستعرضوا ثرواتهم وسموهم. هناك حاجة لاستعادة الحج من براثن الاستغلال التجاري”.

لكنه يختتم مقاله بالقول: “على الرغم من هذا ومن مآسي الماضي، فإنَّ الحشود، بحر البشر الذين يرتدون لباساً أبيض ويُصلّون ويبكون في أقوى تعبيرٍ عن العاطفة الدينية، والذين يحاولون تنقية نفوسهم واحتضان الإنسانية، هو شيء سيبقى مع الحاج لبقية حياته”.

هافينغتون بوست

مقالات ذات صلة