الرياض تفضِّل إملاءات التصعيد على استحقاقات السلام

أحمد الضبيبي

مَسْقَطُ، العاصمةُ العمانية الشقيقة التي احتضنت خيطَ أملٍ رفيعٍ لإنهاء أعنفِ الحروبِ العربيةِ، تُشِيحُ بوجهِها اليومَ عن مشهدِ انهيار دراماتيكي.. ففي قلبِ هذهِ المدينةِ الهادئةِ، حَيثُ بُذِلَتْ جُهُودٌ دبلوماسيةٌ مضنيةٌ على مدارِ أشهر، لم يَعُدْ صدى التفاؤلِ سوى همسٍ بعيدٍ غطَّت عليهِ جلبةُ الفشلِ المُدَوِّي.

لقد كانت المفاوضاتُ اليمنيةُ السعوديّةُ قد بلغت قِمَّتَها الإيجابيةَ ذاتَ يومٍ، لتلوّحَ بطيِّ صفحةِ حربٍ أضحت مرادفًا للفجيعةِ الإنسانيةِ.

لكنَّ هذا المسارَ الحسّاسَ يتدحرجُ الآن بسرعةٍ مرعبةٍ نحو هاويةِ العقدةِ المحكمةِ، ليس؛ بسَببِ تعثّرٍ تكتيكيٍّ، بل بفعلِ التَّعَنُّتِ الصارخِ والانقلاب المُبَيَّتِ من قِبَلِ النظامِ السعوديّ على خارطةِ السلامِ التي التزمَ بها في سياقِ تفاهماتٍ رعاها الإخوةُ بكلِّ نزاهةٍ في سلطنةِ عُمان.

هذا التراجعُ ليسَ مُجَـرّد خيانةٍ لاتّفاق إقليميٍّ، بل هوَ رُضوخٌ مُهِينٌ ومتعمّدٌ للإملاءاتِ الجيوسياسيةِ التي تُدارُ من غرفِ القرارِ الغربيةِ، تحديدًا من الدوائرِ الأمريكيةِ والإسرائيليةِ، التي تتّخذُ من الرياضِ أدَاة لتصعيدٍ مُعادٍ لليمنِ.

إِنَّ صفعةَ مسقطَ تؤكّـد حقيقةً مُرَّةً ومتجذّرة: أنَّ قرارَ الحربِ والسلمِ في الإقليم ما زالَ مُرتهنًا بالكاملِ لأجنداتِ الوصايةِ الخارجيةِ التي لا ترى في استقرار المنطقةِ سوى تهديدٍ لمصالحِها، لتبرزَ تساؤلًا صارخًا: هل كانَ الهدفُ هوَ السلامُ حقًّا، أم مُجَـرّد مناورةٍ لتلبيةِ رغباتِ المُتَحَكِّمِ الخارجيّ؟.

إنّ التنقلاتِ المكثّـفةَ للمبعوثِ الأمميِّ إلى اليمنِ، هانس غروندبرغ، ولقاءاتِه المتعاقبةَ بالوفدِ الوطنيِّ المفاوضِ والمسؤولينَ العُمانيينَ، والتي انتهت بحملِه جرّةَ الخيبةِ بدلًا من إكليلِ النجاحِ، تشكّلُ أدلّةً دامغةً على إصرار الرياضِ المتصلّبِ على الارتماء في أحضانِ خيارِ العودةِ إلى الحربِ، مستندةً إلى دعمٍ أمريكيٍّ مباشرٍ لا يقفُ عند حدودِ التأييدِ السياسيِّ، بل يمتدُّ إلى التخطيطِ الاستراتيجيِّ المشتركِ.

هذهِ الاستجابة السعوديّةُ للأوامر الأمريكيةِ والإسرائيليةِ بالالتفاف الماكرِ على خارطةِ الطريقِ للسلامِ، هي إعلان عن تنسيقٍ مفضوحٍ ومباشر.

فواشنطنُ وتلُّ أبيبَ يتجلّى سعيهُما لاستخدام الرياضِ “كمطرقةٍ جيوسياسيةٍ” لضربِ اليمنِ، خَاصَّة بعد أن تكسّرت شوكةُ حملتِهما طوالَ عامينِ من الصمودِ اليمنيّ في “معركةِ إسنادِ غزّةَ” التي غيّرت موازينَ القوى.

لقد جاءت الضربةُ القاضيةُ لجهودِ السلامِ متزامنةً مع زيارةِ وليِّ العهدِ السعوديّ، الأميرِ محمدِ بنِ سلمانَ، لواشنطنَ، وما تبعها من تصريحاتٍ أمريكيةٍ، تشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ قرارَ واشنطنَ للتصعيدِ في اليمنِ قد حُسِمَ.

فكما أعلن اندلاع العدوانِ في 26 مارس 2015م من على منبرِ الولاياتِ المتحدةِ، اليومَ تُعلنُ واشنطنُ عزمَها على رفضِ السلامِ الذي كانَ وشيكًا، والعودةِ القسريةِ إلى مربّعِ الاشتباك المفتوحِ.

وكانت التصريحاتُ الأمريكيةُ قد ربطت إحرازَ أي سلامٍ مستقبليٍّ بـ”تعطيلِ المواردِ الماليةِ والماديةِ” لما وصفتْهُ بـ”الحوثيينَ”، مُقحِمةً مِلفَّ العملياتِ اليمنيةِ في البحرِ الأحمر كشرطٍ مسبقٍ، ممّا يؤكّـد أنَّ الهدفَ ليسَ السلامَ، بل فرضُ إملاءاتٍ تُجرّدُ اليمنَ من أوراق قوّتِه الرادعةِ.

إنّ الاستجابة السريعةَ للتوجيهاتِ الأمريكيةِ بالانقلاب على خارطةِ الطريقِ للسلامِ مع اليمنِ تعني حتمًا العودةَ إلى “المعركةِ الكبرى”، وهوَ مآلٌ سيحوّلُ كُـلّ دولِ الخليجِ إلى ساحةِ صراعٍ جيوسياسيٍّ غيرِ مسبوقٍ في تاريخِه.

وهذا الفعلُ هوَ بمثابةِ لعبٍ بالنارِ ومقامرةٍ وخيمةِ العواقبِ بمستقبلِ المملكةِ ذاتِها، ووضعِ المنطقةِ بأسرِها على صفيحٍ لا هادئٍ، بل مُنصَهِرٍ.

فقد باتَ الإخلالُ بالاستحقاقاتِ الإنسانيةِ من قِبَلِ الرياضِ يؤشّرُ إلى أنَّ الحربَ المفتوحةَ قد أضحت قابَ قوسينِ أَو أدنى من الاشتعالِ، وسيكونُ ثمنُ التَّنَكُّرِ للسلامِ باهظًا ومؤثّرًا على استقرار الملاحةِ وطرقِ الطاقةِ العالميةِ.

في مقابلِ هذا التَّعَنُّتِ، وبعدَ خروجِ قائدِ الثورةِ، السيدِ عبدِالملكِ بدرِالدينِ الحوثيِّ (يحفظه الله)، في كلمةٍ متلفزةٍ، ليُعلنَ عن حصيلةِ الإسنادِ المهيبةِ لغزّةَ، وليُسدلَ الستارَ عن حقيقةٍ استراتيجيةٍ كبرى: أنَّ اليمنَ صارَ البلدَ العربيَّ والإسلاميَّ الوحيدَ الذي يمتلكُ الاكتفاء الكاملَ في التصنيعِ الحربيِّ، ودخلَ حديثًا إلى “نادي الدولِ المصنّعةِ والمطوّرةِ للصواريخِ الباليستيةِ الفَرْطِ صوتيةِ”.

هذهِ القدرةُ، التي أثبتت نجاحَها العمليَّ الحيَّ للصواريخِ الباليستيةِ والمجنّحةِ والفرطِ صوتيةِ، تُمثّلُ توازنًا رادعًا جديدًا لا يمكنُ للرياضِ ولا لداعميها تجاهلُهُ أَو القفزُ عليهِ.

إنّ الرفضَ المتكرّر سابقًا من الكيانِ الصهيونيِّ لامتلاكِ السعوديّةِ لطائراتِ F-35، والذي تحوّلَ إلى “ضوءٍ أخضرَ إسرائيليٍّ” لإتمام صفقاتِ تسليحٍ كبرى، يؤكّـد أنَّ هذا الاندفاعَ المتسارعَ في التسليحِ يتمُّ بتوجيهاتٍ تهدفُ إلى العودةِ للحربِ.

هذا السباقُ التسليحيُّ النوعيّ والمفاجئُ يؤكّـد عزمَ الرياضِ على إشعال فتيلِ الحربِ من جديدٍ، ولكنّهُ سيجعلُ المعركةَ القادمةَ أكثر اتّساعًا وضخامةً، وسيُسقطُ آخر خطوطِ الدفاعِ الهشّةِ عن الأمنِ الإقليميّ.

وفي هذا السياقِ، باتَ لزامًا على اليمنِ العودةُ إلى استهداف المنشآتِ الحيويةِ والحسّاسةِ في دولِ الخليجِ، وعدمِ الاكتفاء بتهديدِ الملاحةِ في بابِ المندبِ مجدّدًا، بل شلُّها تمامًا بقوّةٍ أكبر وأثرٍ أوسعَ، إذَا ما تطلّبَ الموقفُ الدفاعيُّ ذلكَ.

وختامًا: إنّ الرياضَ قد وضعت مصيرَها ومصيرَ المنطقة تحتَ مقصلةِ الرهانِ على قوى أثبتت فشلَها في الميدانِ اليمنيِّ، والثمنُ سيكونُ استراتيجيًّا لا يمكنُ احتواؤُه.

مقالات ذات صلة