“حُفاة اليمن”.. مدد عند الشدائد

أهل اليمن، أهل العزائم والفضائل، حاضرون عند الشدائد، فلا عجب في أن يقال عند كل منعطف تاريخي تجتازه الأمّة: «مدد يا أهل اليمن»!

سلوى دبوق

منذ بدء العدوان على غزة يخرج اليمنيون بالآلاف في مسيرات ضخمة دعماً للشعب الفلسطيني في وجه الوحش الإسرائيلي. لكن اليمنيين لم يكتفوا بالمُظاهرات والصوت العالي، بل بدأوا فعلياً دعم المقاومة في غزّة من خلال إطلاق الصورايخ بعيدة المدى على مدينة إيلات، وإرسال المُسيّرات التي تنجح في الوصول إلى أهدافها أحياناً، ويتم إسقاطها أحياناً اخرى. ومؤخراً فاجأوا الجميع بالاستيلاء على سفينة “إسرائيلية” وحجزها مع طاقمها في عملية شبيهة بأفلام هوليوود.

 

لطالما شهد التاريخ لليمنيين بالبأس والشجاعة والحكمة، والنص القرآني أثبت لهم تلكم الصفات حين ذكر قصة بلقيس ملكة سبأ، التي استشارت وجهاء مملكتها في أمر رسالة النبيّ سليمان إليها، فقالوا لها: «نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين».

 

من جهة أخرى، غالباً ما نسمع عبارة «حفاة اليمن» عند الحديث عن الشعب اليمني، ويعكس هذا التعبير واقع الحياة الشاق في بعض المناطق اليمنية، حيث يواجه الكثيرون ظروفاً اقتصادية صعبة ونقصاً في الموارد الأساسية.

 

لكن، على رغم شظف العيش وقسوة الحرب التي خيضت ضد اليمن وأدت إلى تدهور الوضع الانساني فيه، وعلى رغم سخرية البعض من أقدام اليمنيين العارية ونعالهم البسيطة، كما فعل أحد الإعلاميين العرب المعروفين مؤخراً، فإن هذا الشعب استطاع تحقيق إنجازات عظيمة، وأثبت أنّ المرء لا يحتاج إلى حذاء من ماركة معروفة ليكون عربي الهوى والانتماء! فما رمزية الأحذية، وما معنى المشي بأقدام حافية؟

 

نستخدم الأحذية أحياناً وسيلةً للتمييز الاجتماعي. يمكن أن تكون العلامات التجارية الفاخرة رمزاً للهويّة الاجتماعية أو الاقتصادية الرفيعة، في حين أن بعض الأفراد قد يختار أحذية مُكلِّفة للتعبير عن نجاحهم المالي، بينما قد يعاني آخرون صعوبة في شراء أحذية عالية الجودة وباهظة الثمن.

 

تسمح الأحذية، تماماً مثل الملابس، بتحديد موقع الانسان في السّلم الاجتماعي، فلكلّ فئة اجتماعية أحذيتها الخاصّة. يكفي سرد ​​الأسماء المتعدّدة والمرتبطة بها لتؤدّي إلى ظهور تمثُّلات اجتماعية متباينة للغاية من الصنادل، والأحذية ذات الكعب العالي، إلى الأحذية الرياضية، وأحذية الباليه، والنعال، وصولاً إلى القباقيب وأحذية الكاحل والجزم … وهذا من دون ذكر العلامات التجارية!

 

يبالغ بعض الأشخاص في الاستعراض الاجتماعي من خلال أحذيتهم، كبعض الأثرياء أو المشاهير الذين يتفاخرون في اقتناء أحذية من ماركات إيطالية شهيرة. في حالة اليمنيين، قد يكون السير بأقدام حافية دلالة على الوضع المتردّي، اجتماعياً واقتصادياً، لكنّه يشكل أيضاً تمرّداً على منظومة الهيمنة القائمة على الظلم وعلى المظاهر السطحية والتفاوت الطبقي.

 

من جهة أُخرى، تُعبِّر الأقدام الحافية عن بساطة أهل اليمن وتواضعهم، وربّما يشعر اليمني بالراحة وهو يمشي حافي القدمين أو حين يلبس نعلين خفيفين، وهذا أمر طبيعي.

 

ثم إن الأقدام  الحافية رمز للحرّية والانطلاق، فلا عجب في أن يتمّ تقييد رجلي الإنسان بالسلاسل في حال وقع صاحبها في الأسر. أما من الناحية الدينية، فالقدم العارية هي رمز للتواضع والخشوع والتبجيل، وتحضرنا هنا الآية الكريمة التي يخاطب بها الله كليمه موسى ويأمره بخلع نعليه «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى».

 

أمّا بعض المفسّرين فيقول إنّ الله أراد أن يطأ النبيّ موسى الأرض المُقدّسة بقدميه، لتصل إليه بركتها. والمسلمون يخلعون عادة أحذيتهم قبل دخول المسجد للصلاة احتراماً للمكان، الذي يُعَدّ مأوى للعبادة والتواصل مع الله.

 

كما أنّ أغلبية الديانات تقدّس آثار الأقدام (vestigium pedis). فعلى سبيل المثال، نجد في قصر توبكابي العثماني في مدينة إسطنبول الصخرة التي يُعتقد أنها تحتوي على آثار قدم النبي محمد، ويقال إنّه وقف عليها عندما عُرج به في ليلة الإسراء والمعراج.

 

أمّا في المسيحية فوردت في الانجيل قصة العشاء الأخير، حين قام السيد المسيح بغسل أقدام تلاميذه. هذا الفعل التواضعي يُظهِر مفهوماً مهماّ في التعاليم المسيحية بشأن الخدمة والتواضع. كذلك، تشير كلمة «بودهابادا»، في اللغة السنسكريتية، إلى آثار أقدام بوذا، التي كانت تُبجّل كثيراً في الأيام الأولى للبوذية.

 

إذا كانت القدم مهمّة جدّاّ، فذلك لأنها تقول شيئاً عن هويتنا، لكن أيضاً عن عمرنا ، ورحلتنا في الحياة، فسواء أكانت متصلّبة، قرنية، مُشوّهة، متشقّقة، صغيرة أم كبيرة، موشومة بشكل جميل أم ملوّثة بالطين، فإن القدم تروي قصّة صاحبها وصراعاته. من جهة أُخرى، يظهر الإنسان الحافي القدمين على حقيقته من تجميل، ويكون أقرب إلى الفطرة والطبيعة.

 

ومن الملاحّظ أنّ الرومان اختاروا الأقدام العارية رمزاً للمكانة الإلهية في التماثيل الرومانية القديمة، لأنّهم كانوا يعتقدون أن المشي حافي القدمين على الأرض طوال الوقت يتطلّب مقاومة خارقة للألم. وفي حين أنّنا قد نربط المشي بقدمين حافيتين بالهمجية، ربطه الرومان بالصلابة وقوة البنية.

 

كذلك، في التماثيل اليونانية القديمة، التي تسبق التماثيل الرومانية، غالباً ما يتم تمثيل الآلهة حُفاة الأقدام. ومن المثير للاهتمام أن هذا قد يكون أيضاً أحد الأسباب التي جعلت أفلاطون يصف الفيلسوف سقراط في حواراته بأنه شخصية خارقة لأنّه يتجول حافي القدمين، ولا يشعر بأي ألم.

 

إنّ الإنسان اليمني الذي يمشي على الأرض بقدميه العاريتين يصبح متقبلّاً تماماً للطاقات التلورية التي تنبثق من أعماق الأرض – الأم. في رمزية جسم الإنسان، ينتمي الرأس إلى العالم الأوراني والشمسي: فالرأس يُمثّل الجزء السماوي من جسدنا، والقدمان تُمثّلان الجزء الأرضي منه، لأنها تربطنا بالعالم التلوري (أي العالم التحتي). وهكذا تُشكّل الأقدام والرأس المحور العمودي الذي يُوحّد بين الأرض والسماء، وهما النقطتان الرئيستان لشجرتنا الكونية الداخلية. لذا يقال إن السير بأقدام عارية يُعزّز الاتصال الحيّ بالأرض ويسمح بانتشار الطاقة الإيجابية في جميع أنحاء جسم الإنسان.

 

في الأدب، غالباً ما ترتبط الأقدام العارية بالشخصيات التي تسعى لتحرير نفسها من الأعراف الاجتماعية، أو العيش وفقاً لمبادئها الخاصة، أو العودة إلى الطبيعة. على سبيل المثال، في رواية «البؤساء» لفيكتور هوغو، تمشي كوزيت حافية القدمين في الغابة لجلب الماء، الأمر الذي يبرز براءتها ونقاءها وبؤسها.

 

وفي رواية «الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت إكزوبيري، يسافر البطل حافي القدمين في الفضاء، الأمر الذي يدلّ على دهشته  وفضوله وعفويته.

 

في الفن، غالباً ما تُستخدم الأقدام العارية لتصوير مشاهد دينية أو أسطورية أو تاريخية بهدف التعبير عن فكرة القداسة أو التقوى أو التضحية. على سبيل المثال، في لوحة «العشاء الأخير» لليوناردو دافنشي، تم تصوير يسوع وتلاميذه حفاة الأقدام لإظهار استعدادهم للمعاناة والموت من أجل إيمانهم.

 

أما في «طوافة ميدوسا» لتيودور جيريكولت، فتم تمثيل المنبوذين حفاة الأقدام لعرض محنتهم ويأسهم وإنسانيتهم.

 

وفي “لوحة الحرية تقود الشعب” ليوجين ديلاكروا، تظهر المرأة التي تحمل العلم الثلاثي الألوان حافية القدمين، الأمر الذي يرمز إلى شجاعتها وحماستها ومُثُلها العليا.

 

وكذلك في الشعر، نذكر قصيدة عباس بيضون «يا علي»، التي يقول فيها «نحن أهل الجنوب حفاة المدن»، والتي تحكي عن الكفاح التاريخي لأبناء جنوبي لبنان.

 

أمّا الفنّانون الحقيقيون، الشعراء المبدعون، القِدّيسون الجدد الذين مشوا حفاة على الماء، فهم أهل اليمن الذين لم يتأخّروا عن خوض عباب البحر الأحمر وأسر السفن، ولم يتلكأوا عن إرسال صواريخهم التي تجتاز حافية بحاراً ودولاً كرمى لفلسطين وشعبها.

 

أهل اليمن، أهل العزائم والفضائل، وأهل الثبات والجهاد، حاضرون عند الشدائد، لا يخافون لومة لائم، ولا يخشون تهديدات قوى الشر الكبرى، ومستعدون للذّود عن إخوتهم المظلومين في فلسطين، فلا عجب في أن يقال عند كل منعطف تاريخي تجتازه الأمّة: «مدد يا أهل اليمن»!

 

 

مقالات ذات صلة