المولد النبوي الشريف والرؤية الاقتصادية المحمّدية الناصعة.. قواعد وأسس ثابتة للبناء الاقتصادي لكل الأمم

عمران نت – صحافة – 22 ربيع الأول 1443هــ

وُلِدَ رسولُنا وحبيبُنا محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- في مكةَ المكرمةِ في عام الفيل في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان يتيماً فقد توفي والده قبل ميلاده ويرجع نسبه الشريف إلى نبي الله إسماعيل بن خليل الله إبراهيم عليهما السلام، ويوم المولد النبوي الشريف هو يوم يحتفل به جميع المسلمين بميلاد خير خلق الله وأشرف المرسلين نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- وقد وضع للأُمَّـة الإسلامية أسس حياة كاملة في جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والإنسانية ووضع مجموعة من المبادئ والقواعد الثابتة التي تتلاءم مع مختلف الظروف والأزمات؛ لأَنَّها أصول لا تقبل التغيير والتعديل؛ ولأَنَّها صالحة لكل زمان ومكان فقد كرم الله البشرية بالإسلام وأرسل لهم خير خلق الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويبين لهم أُسُسَ الحياة السليمة، وقبل أن تأتي النظريات الرأسمالية والاشتراكية الماركسية أوجد الرسول الأعظم محمد نظرية اقتصادية إسلامية مرتبطة بالأخلاق والصدق والأمانة من أهم مبادئها أن المال مال الله والإنسان مستخلَفٌ فيه.

 

إن إحيَاء ذكرى المولد النبوي الشريف هو مناسبة للحديث عن رسالته ومنهجه وعن واقع الأُمَّــة خَاصَّة ونحن في زمن التضليل والارتداد وفي زمن جاهلية أُخرى المتمثلة بالانحراف الأخلاقي والتطبيع مع اليهود، حَيثُ أننا نكون في أمس الحاجة لمعرفة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- في مواقفه وفي تحَرّكاته وإحسانه وتعاملاته وفي مواجهته للباطل.

 

والشعب اليمني يحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف يحق لشعب الإيمان والحكمة أن يفتخر بعد هذا الخروج المهيب والمشرف في جميع المحافظات اليمنية المحرّرة لإحيَاء ذكرى المولد النبوي الشريف فهذا ليس بغريب على أحفاد أنصار الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ-.

 

وقد اجتمعت الحشود بالملايين في موقف العزة والكرامة في حب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- رغم العدوان والحصار والحرب الاقتصادية التي تستهدف المواطن اليمني في عيشه وحياته ورغم ذلك احتفل الشعب اليمني في ميدان السبعين وبقية الميادين في المحافظات وهو يوجه رسالة للعدوان الغاشم ومن سار في فلكهم من دول الضلال والارتزاق مفادها أن هذه الملايين هي التي تمثل الشرعية والسيادة اليمنية وليس زمرة العمالة والخيانة والارتزاق التي تقبع في فنادق الرياض، فأين هي مواقف العقلاء والشرفاء في هذا العالم! لذلك فَـإنَّ احتفالنا بالمولد النبوي الشريف هو تقرباً لله سبحانه وتعالى وتعبيراً لحب رسوله واستشعاراً وابتهاجاً بالنصر القريب بإذن الله تعالى على قوى الطغيان والاستكبار العالمي.

 

 

 

الجوانب الاقتصادية البارزة مع المولد النبوي:

 

والحديث عن المولد النبوي الشريف لا يمكن أن نحصيَه لا في كتب ولا مجلدات فالرسول الأكرم ومنذ ميلاده الشريف كان إيذاناً بنهاية عصر الأصنام والعبودية لغير الله سبحانه وتعالى وتمهيداً لنزول الوحي برسالة الإسلام السمحة، حَيثُ كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- قُدوةً في كُـلّ شيء وعلى الرغم من معادَاة كفار قريش له إلا أنهم لم ينكروا أنه سيد في أخلاقه وأنه الصادق الأمين في أقواله وأفعاله فيوم المولد النبوي الشريف مناسبة عظيمة تزهوا بها الحروف والكلمات والكتابة عن المولد النبوي الشريف تعني أن تنحني الحروف خجلاً لعجزها عن التعبير فهي تتكلم عن أعظم مخلوقات الله فهو الذي اصطفاه الله وطهره وجعله إماماً للعالمين وأيده بمعجزة القرآن الكريم كي يكون حجته في دعوته وأعطاه من الأخلاق أعظمها حتى أن الله سبحانه وتعالى وصفه في القرآن الكريم بأنه صاحب الخلق العظيم؛ لأَنَّ أخلاق الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- هي أخلاق الأنبياء الكاملة؛ ولأنه لا ينطق عن الهوى إنما هو وحي يوحى.

 

وفي ذكرى المولد تبرز العديد من الجوانب الاقتصادية التي ارتبطت بميلاده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- ومنها مظاهر البركة الاقتصادية التي ظهرت بصورة واضحة منذ نعومة أظافره مع مرضعته حليمة السعدية فكان فاتحة خير عليها وعلى أهلها ومن مظاهر البركة الاقتصادية التي ارتبطت بميلاده تتمثل في ترسيخ قيمة العمل والاعتماد على النفس، حَيثُ أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- لم يركن منذ صغره إلى الاعتماد على غيره فبعد انتقال كفالته لعمه أبي طالب رأى الحالة الاقتصادية غير المتيسرة لعمه فعمل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- برعي الغنم لمساعدة عمه وبعدها عمل بالتجارة، حَيثُ أن اعتماده على ذاته في الكسب رسالة واضحة بأن الفم كي تخرج منه الكلمة حُرَّةً أبيةً يجب ألا يتحكمَ في إطعامه غير صاحبه وأن من يكون عالة على غيره لا يمكن أن يكون قرارُه ناتجًا عن إرادَة حقيقية، فالمسلم مطالب بالاعتماد في معيشته على جهده ويأكل من عرق جبينه وحتى لا يكون لأحد من الناس منة أَو فضلاً يحول بينه وبين الصدع بالحق.

 

 

 

القواعد الاقتصادية المحمدية:

 

فمن القواعد الاقتصادية التي جاء بها الصادق الأمين أن الاقتصاد جزء من الدين والدين المعاملة، أي عبادة تعاملية فالدين الإسلامي لا يقتصر على الجانب التعبدي فقط ولكن يشمل أَيْـضاً جانب المعاملات؛ لأَنَّ الدين الإسلامي منهاج حياة متكامل لتنظيم حياة الناس عبادة ومعاملة فالإنسان وهو يمارس دوره في عمارة الأرض عليه أن يأتمر بأوامر الله وينتهي عن ما نهى عنه وبذلك يتم الجمع بين الروح والمادة في الاقتصاد فتنشأ خاصيةُ الإحساس بالله تعالى ومراقبته في كُـلّ نشاط اقتصادي لذلك من أسس النظرية الإسلامية التي أرسى مداميكها الرسول الأعظم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- جاءت لتكريم الإنسان والمساواة بين الناس والتسخير والتذليل والتكليف بالعمل والإحسان والرقابة الدائمة ومن حرية التملك والحرية الاقتصادية والتكافل والترابط والتكامل فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- أرسى قاعدة المؤاخاة والإيثار والتكافل الاجتماعي وأوجد قواعد ثابتة وسليمة للتعاملات التجارية لا تزال نافذة حتى اليوم.

 

وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وهجرة المسلمين إليها ظهرت الحاجة الملحة إلى المال والاقتصاد فلما كان ذلك عالج رسول الله الجانب المالي والاقتصادي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ويعتبر هذا الإجراء وفق السياسات الاقتصادية من ضمن المعالجات الضرورية لحل مشكلة تتعلق بالجانب المالي والاقتصادي وهي حالة مؤقتة تم تنفيذها لحل أزمة مالية واقتصادية كانت موجودة في تلك الفترة وقد كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- بارعاً في الأمور التجارية فعندما وصل إلى المدينة المنورة مهاجراً إليها أقام كيانًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا مستقلًّا، حَيثُ أن علاقته بالتجارة بدأت مبكرة تأثراً بالبيئة التي نشأ فيها، حَيثُ اكتسب سمعه تجارية طيبة ولقب بالصادق الأمين وهو ما جعل السيدة خديجة رضي الله عنها تختاره لإدارة تجارتها ومن ثم الزواج به.

 

والجانب المالي والاقتصادي في الدولة الإسلامية هو مجموعة المبادئ والأصول الاقتصادية التي تحكم النشاط الاقتصادي للدولة الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ويعالج الاقتصاد في الإسلام مشاكل المجتمع الاقتصادية وفق المنظور الإسلامي للحياة، ويتضح من ذلك أن المبادئ الاقتصادية التي وردت في القرآن والسنة هي أصول لا تقبل التعديل؛ لأَنَّها صالحةٌ لكل زمان ومكان ويؤمَّن الاقتصاد في الإسلام بالسوق، حَيثُ أن ثاني مؤسّسة قامت بعد المسجد في المدينة المنورة هي السوق، وقد شارك في التجارة بعض الصحابة الذين كانت حالتهم المادية جيدة.

 

 

 

معالجات نبوية للتجارة:

 

وقد نجح رسولنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- في القضاء على احتقار بعض المهن والحرف والظواهر التجارية المدمّـرة، حَيثُ أمر بكتابة الديون في صكوك حتى لا تصبح الحركة التجارية عرضة للنسيان أَو باباً للمغالطات وتقلبات النفوس والأهواء وحرم التعامل بالربا الذي يعتبر سببًا رئيسيًّا في تدمير وتآكل رؤوس الأموال وخَاصَّة ما يستخدم منها في التجارة ويضاف إلى ذلك نجاحات كثيرة للرسول الأكرم، منها القضاء على بعض الظواهر التجارية المدمّـرة التي استخدمها اليهود لامتصاص ثروات المجتمع الإسلامي دون بذل أي جهد وقد حث التجار على التسامح في البيع والشراء عندما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “رحم الله عبدًا سمحًا إذَا باع وسمحًا إذَا اشترى”، وكذلك حث على الصدق في التجارة وبين الخير والبركة نتيجة هذا الصدق ونهى عن الغش في التجارة فقال: من غشنا فليس منا.. كما نهى عن الحلف لترويج السلعة وذكر ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وذكر منهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب ونهى عن الاحتكار للسلع في الأسواق وأسس النظام الرقابي في الأسواق ومعظم الأسس والمعايير التي تشجع على العمل بالتجارة والاستثمار وقد نص القرآن الكريم على التشريعات التجارية والاقتصادية وبين للناس كيفية التعامل الصحيح في الأمور التجارية.

 

ولم تقف إجراءات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- عند هذا الحد فقد اقتضت سيرته العطرة في التجارة أن يكون له دورٌ في إزالة أسباب الخلاف على المعاملات التجارية والتي تنطوي على الكثير من الظلم والغش وكانت سبباً في وجود الخلافات بين التجار ومن أمثلة ذلك الربا والغش والغرر واستقبال الناس عند بداية الأسواق وأخذ بضائعهم بثمن أقلَّ من ثمن السوق وبيع المحاصيل قبل أوانها وغير ذلك، مما أعطى الحياة الاقتصادية في المدينة المنورة الأمان من خلال الثقة التي لمسها التجار من النبي والمسلمين وأصبحت المعاملة في السوق تتميز بصدق التعامل ومنع الجور والغش والاستغلال والاحتكار.

 

إن ميلاد النبي الأكرم فرصة مهمة لتجديد القلوب بمحبته وإبراز قيمة الاقتصاد في حياة الأُمَّــة الإسلامية فالأمة التي تُهمل إنتاجها ولا تستغل قدرات ومهارات أبنائها ولا تعتمد على غذائها وملبسها من ما تنتج وتصنع وتعتمد على غيرها في تلبية حاجاتها هي أُمَّـة ضائعة ومغيبة فلا مكان يذكر لاقتصادها ولا مستقبل مشرق ينتظر أبناءَها ويسهل على أي مستعمر أجنبي السيطرة عليها والتحكم في مواردها وثرواتها، وما أحوجنا في ذكرى ميلاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ- أن نتمثل الشخصية الاقتصادية الناجحة والمتميزة التي لخصتها السيدة خديجة رضي الله عنها في قولها لرسول الله يوم نزل الوحي عليه: (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ).

 

 

 

صحيفة المسيرة: د. يحيى علي السقاف

 

وكيل وزارة المالية

مقالات ذات صلة