ثورة 21 سبتمبر: بداية المفاجآت اليمنية

عبد الحسين شبيب*

 

لم تنل ثورةُ 21 سبتمبر 2014 التي قادتها “أنصارُ الله” في اليمن حقَّها من الاستعراض والنقاش والتحليل، بوصفها متحولًا استراتيجيًّا في منطقة فائقة الحساسية، ذلك أن الحربَ التي شنها تحالف إقليمي بدعم دولي بقيادة السعوديّة بعد 6 أشهر من انتصار تلك الثورة هدفت بالدرجة الأولى إلى احتواء مضاعفاتها والانقضاض عليها قبل أن يقوى عُودُها ويتزايد تأثيرها. والأسباب التي دفعت إلى شن تلك الحرب المُستمرّة منذ 7 سنوات ونيف تتركز على التالي:

 

1 – إحباط النموذج اليمني الناجح في إطلاق وإدارة ثورة شعبيّة في جوار خليجي يتسم بالحكم الوراثي المطلق -إلا ما ندر- ويعتمد في صناعة السلطة وتداولها على سلالات عائلية وعلاقات قبلية ودعم خارجي أمريكي بريطاني بالتحديد ولا يوجد فيها للشعب أية مشاركة فاعلة في إنتاج تلك السلطات وتداولها.

 

2 – الحؤول دون إقامةِ نظامٍ سياسي في صنعاء يأخذ بيد اليمنيين نحو إقامة دولة مستقلة بالفعل وليس بالشعار، وذات سيادة حقيقية بالممارسة وليس بالنصوص، ويكون لتلك الدولة اليمنية الجديدة والحديثة الصلاحية المطلقة في تحديد سياستها الخارجية واختيار الصديق من العدوّ بعد أن تتخلص من الارتباط الكلي بالإدارتين الأمريكية والسعوديّة اللتين أدارتا منفردتين أَو بالتشارك السياسة اليمنية لعقود خلت قبل تاريخ 2014.

 

3 – المشروع الثقافي القرآني الجهادي لحركة “أنصار الله” كان العنصر الذي فاقم القلق لدى كُـلّ من الرياض وواشنطن وعواصم أُخرى في العالم والإقليم من هذا المتغير الاستراتيجي الذي سيطلق لاحقاً مساراً متصاعداً من المفاجآت اليمنية انطلاقاً من بعد إيماني في إدارة الشأن العام، والذي تميز بجرأة استثنائية في خوض غمار تلك التجربة الثورية متكئاً على إرث من حروب ست واجه فيها البطش الداخلي لنظام علي عبد الله صالح بإيعاز أمريكي واعانة سعوديّة، ومن ثم مشاركة فعالة في ثورة فبراير 2011 اليمنية قبل أن يتم اكتشافُ حقيقةِ مَن يتلاعب بأحلام اليمنيين بالتغيير وكيف أخذوا إلى وصاية دولية بموجب ما سمي المبادرة الخليجية المشفوعة بقرارات من مجلس الأمن الدولي بوضع اليمن تحت الفصل السابع مع ما يعنيه ذلك من تشريع أممي للتدخل الدولي الأمريكي والمتعدد الجنسيات في شؤون هذا البلد.

 

من هذه النقطة بالذات، كانت المفاجأةُ الأولى التي حقّقتها ثورة 21 سبتمبر بالإطاحة بتلك الوصاية الدولية التي عاثت فساداً في اليمن على مدى 3 سنوات عبر منظومة عبد ربه منصور هادي وعلي محسن الأحمر ومن بينهما من تركيبة متعددة الأضلاع من شركاء النظام السابق ممثلين سياسيًّا بحزبي التجمع اليمني للإصلاح والمؤتمر الشعبي العام وأُطُرٍ قَبَلية ومناطقية وشخصية تشاركت في إدارة تلك المرحلة بإشراف أمريكي سعوديّ أَيْـضاً.

 

المفارقة التي أحدثتها ثورة 21 سبتمبر أنها كسرت تلك القاعدة التي اتكأت عليها ما عُرفت بثورات الربيع العربي التي قامت على دعم خارجي محض اتخذ أشكالاً مختلفة من التعبير عنه كانت ذروته في تحول ما سمي بالثورة السورية إلى حرب دولية إقليمية على سوريا. وبالتالي كان حراكُ اليمنيين بقيادة “أنصار الله” ينطلق من دون أية رعاية خارجية ورفضا لأي استدعاء خارجي ثم وصاية خارجية ونجحت في ذلك رغم الطوق المحكم الأمريكي الخليجي عبر تلك المبادرة الوصاية المشؤومة.

 

كان ذلك تحدياً كَبيراً يحتاجُ إلى شجاعة الإقدام والاستمرار وحماية الإنجاز، وهو ما حصل بالفعل، بحيث أن من أولى نتائج تلك الثورة إقفال سفارات دول الوصاية القديمة والجديدة، وعلى رأسها سفارة الأمريكيين الذي تفاجأوا من السرعة في الحسم والسيطرة والامساك بالأرض بتقنيات مزجت بين الشعبي والعسكري والإعلامي، وغادروا (الأمريكيين) بوساطة عُمانية، تاركين وراءهم مشروعاً عملوا على بنائه لعقود عدة في هذا البلد ذي الموقع الاستراتيجي في زاوية بحرية خطيرة جِـدًّا وفي جوار قريب من نزاعات مقلقة، وهذه هي المفاجأة الأُخرى التي صدمت الأمريكيين بسرعة سقوط هذا البلد من يدهم ودخولهم في مرحلة من التيه والتخبط في التعامل مع المستجدات فاخرجوا من واشنطن “عاصفة الحزم” كمحاولة لإسقاط تلك الثورة واحتواء مفاعليها.

 

هُنا أَيْـضاً وقع الجميعُ من جديد في فخ التقدير الخاطئ لما ستؤولُ إليه الحربُ ليظهرَ مرةً أُخرى وفي ساحة هامة جِـدًّا فشلٌ استخباريٌّ بحثي لدى صانع القرار الأمريكي في أن تلك الموجة العنيفة من العاصفة ستطيح بالثورة سريعا، قبل أن تمُرَّ سنون قصيرة جِـدًّا في عمر التحولات الكبرى ليعترفَ هؤلاء ويلمسوا بالدليل الحسي كيف قادت “أنصار الله” اليمن إلى مرتبة اللاعب الإقليمي الهام جِـدًّا بعد أن اتمت بنجاح ترتيب البيت الداخلي وإنتاج سلطة تدير بلداً يتعرض لعدوان شرس ويخضع لحصار وحشي وتحبط مؤامرات داخلية خطيرة كالتي قادها علي عبد الله صالح والتي أَدَّت إلى مصرعه.

 

لذا ثورة 21 سبتمبر لا تُقرَأ بوقائعها فقط إنما بنتائجها ما قبل الحرب وما بعدها، بحيث أعادت إنتاج فريق يمني سياسي إداري عسكري أمنى ثقافي إعلامي يدير السلطة الجديدة بكفاءة تختلف كليًّا عن كفاءة الفريق الذي يدير المناطق الخاضعة للاحتلال السعوديّ الإماراتي والتي تحولت إلى مناطق صراع دموي وفوضى امنية واجتماعية عارمة. وهي بذلك تعيدنا إلى نقطة الإبهار الأولى في ذلك الحدث الاستثنائي الذي كان سيجذب الشباب العربي في الجوار وغيره إلى خوض تجربة مماثلة بالاعتماد على منطلقات إيمانية مختلفة عن تلك التي استثمر فيها البعض في الإسلام السياسي بطريقة انتهازية انتهت بهم من إخفاق إلى آخر.

 

فليس صدفة أنه بعد 10 سنوات وعشرة أَيَّـام بالتمام والكمال على استشهاد مؤسّس أنصار الله السيد حسين بدر الدين الحوثي في العاشر من سبتمبر عام 2004 في ما بات يعرف يمنيا بالحرب الأولى التي شنها نظام علي عبد الله صالح على محافظة صعدة التي انطلق منها الشهيد الحوثي، ليس صدفة أنه بعد هذه المدة القصيرة انتصرت ثورة 21 سبتمبر بقيادة أنصار الله وأصبحت قطب الرحى في الحياة السياسية اليمنية وباتت طرفاً مؤثراً في النشاط الإقليمي ومكوناً آخر من مكونات محور المقاومة في الانخراط بقضايا الأُمَّــة، وهذا العمر القصير جِـدًّا زمنياً في التحول من صعدة إلى صنعاء إلى المجال الخارجي يعتبر ملفتاً جِـدًّا في رصد وتحليل وفهم نمو الظواهر السياسية التي تحتاج فترات أطول بكثير من عقد. وهذه نقطة مركزية في فكرة المفاجآت اليمنية التي بدأت تظهر تباعاً إلى أن بات اليمن -على سبيل المثال لا الحصر- عنواناً إضافيا في هذه الأيّام لمعادلات الصواريخ الباليستية والطيران المسيَّر وفوقهما مكان جديد لانتصار إضافي ذي قيمة استثنائية في مواجهة النظام العالمي الذي تديره الولايات المتحدة ولا يخرج عنها إلَّا القليل من الدول والقوى التي يدأب السيد عبد الملك الحوثي على توجيه الشكر لها في كُـلّ مناسبة لوقوفها إلى جانب الشعب اليمني ومظلوميته.

 

على أن المفاجأةَ الأبرزَ التي تكرست بشكل لافت أَيْـضاً هي تمكّن هذه القيادة الشابة من الأخذ بيد شعبها من الثورة إلى الدولة إلى الانتصار في الحرب مع فارق المؤهلات والخبرات والإمْكَانيات في مراكز صنع القرار في تلك الدول التي تناصب اليمنيين العداء ورغم ذلك كان سقوطهم وفشلهم مدوياً مقابل سطوع قيادة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي لتصطف ثورة 21 سبتمبر إلى جانب الثورة الإسلامية في إيران التي كانت عنوان التحول الاستراتيجي الأكبر والمفاجأة الأبرز في العقود الأخيرة من القرن الماضي وتكون الثورة اليمنية متحولاً استراتيجياً أبرز في العقد الثاني من القرن الحالي ستتمظهر نتائجه وتجلياته تباعاً، أما ما لا يفاجئ اليمنيين وأصدقاءَهم فهو أن كُـلّ ذلك هو من يقينيات الحقيقة القرآنية الإلهية التي تعد المؤمنين بالنصر دائماً وبالمزيد منه.

 

* كاتب وإعلامي لبناني

مقالات ذات صلة