حرم السفير!

عمران نت/ 23 مايو 2018م

بقلم / مصباح الهمداني

لم أصدق الخبر، وظننتها مزحة، ولكني وجدتُ مقابلة السفير بالصوت والصورة، وهو يتحدَّث بالتفاصيل المثيرة لخروج علي محسن، وشكرتُ الله الذي يكشف لنا كل يوم عن آيات ومعجزات، يعجز المرء عن إحصائها والثناء عليها..ولقد صوَّرت الحادثة بالكلمة لتكونَ أقرب للواقع، وأدق للمعرفة، وأكثرُ استفادةٍ للدروس…
والقصة كالتالي:

صنعاء الساحرة، تكونُ أجملَ ما تكون، بعد العصر، فالشمسُ تتحولُ إلى خيوطٍ ذهبية، والهواء يتحول إلى نسائمٍ رقيقة باردة، لكنَّ عصرَ الواحد والعشرين من سبتمبر2014 كان مختلفًا ومقلقًا لكثير من الجبابرة، فأصواتُ رصاص المستضعفين على أطرافُ صنعاء يصلُ صداها، وأخبارُ تقدمهم تسابقُ الريح..
رنَّ هاتف السفير الخاص، وإذا بصوت متهدج، يحملُ من الذعر الشيء الكثير، ويقول:
-سعادة السفير..أنا علي محسن..الآن عند الرئيس وسآتي إليك حالاً..
ولم يكن بين إغلاق الخط ووصول اللواء سوى دقائق معدودة..استقبله السفير عند الباب، وفتحت بوابة السفارة الكبيرة، ودخلتِ المصفحات والمدرعات، والتي يزيد عددها على ستة عشر مدرعة..
كانَ محسن مذعورًا مشتت الانتباه، فاقدُ التركيز، حاوره السفير في صالة الضيافة؛ إلاَّ أن الرجل يسابق الدقائق، ويختصر الكلام ويقول بصوتٍ مذعور:
-أنا ما جيت أشرح لك..أنا جيتك هارب وللنجاةِ طالب، وأنا في وجه الملك عبد الله.
استغرب السفير السعودي محمد آل جابر، وقال:
-أنت لا شك أنك تمزح يا لواء؟
رفعَ محسن كفيه وحاولَ التحكم برجفتهما الواضحة وقال وهو يهزهما:
-والله ما أمزح، الحوثيين وصلوا طرف صنعاء..
-يالواء..الحوثيون في عمران..وأنت اللواء علي محسن؛ تحت قيادتك مئات الآلاف من الجنود..
لم يمتلك اللواء إلا أن يذرف الدموع بين يدي السفير، ويقول:
-الموضوع جد، وإذا لم تنقذني فسيأتون إلي ويهينوا كرامتي وأنا في وجيهكم..
-طيب لماذا لا تحتمي بقبيلتك سنحان؟
-سنحان كلها ضدي.
-طيب فلتحتمي بخولان؟
-يا خبير ما “عتحمينيشي” سنحان عاد بتحميني خولان.
-طيب أين حزب الإصلاح؟
-قلنا لك يا خبير الحوثيين ما يقدر يوقف أمامهم أحد، وكل واحد “بيدور” أين يهرب، وأين يتخبى.. ثم يمسك ركبتي السفير ويمسحهما بيديه ويقبلهما ويقول:
-أنا “ليمنع أبوك منع القبيلة والديولة وبجاه الله وبجاه الملك” لا تفلتوني.
-لا أكاد أصدق كيف تركك مئات الآلاف من الجنود، وعشرات القبائل اليمنية، وحزب الإصلاح بكله.
نهض السفير واتصل بوزير الخارجية سعود الفيصل، وجاء الجواب من ملك السعودية عبد الله بأن يتم تأمين اللواء، ونقله إلى المملكة…
وجه السفير موظفيه بجمع تلفونات محسن ومرافقيه، وتفتيشهم وأخذ جميع مقتنياتهم، ووضعها في صندوق، ثم أخبر محسن بأن يختار أقل عدد من المرافقين، فاختار تسعة، وتم ترحيل البقية مع المصفحات إلى اتجاهاتٍ ثلاث، فموكبٌ يتجه نحو الحديدة، وآخر باتجاه تعز، وثالث باتجاه مارب..واتصل السفير بعملائه من كبار الإعلاميين وكلفهم بنشر الإشاعات بهروب محسن إلى تعز أو الحديدة أو مارب، وماهي إلا دقائق حتى امتلأت المواقع بالأخبار المؤكدة بهروب محسن، وخروجه من صنعاء، وكذلك تناقل الناس في الوسائط الخبر الكاذب؛ وكأنه حقيقة.. وبعدها تباطأ الثوار في البحثِ عن المطلوب الأول…

أخذ السفير يبحث مع اللواء طريقة التهريب وكيف تكون، وقال محسن:
-اطلب طائرة لتسفير عائلتك؟
هزَّ السفير رأسه وابتسامةٌ ساخرة خبيثة قد تعلقت بشفتيه، وقال:
-وسيلبس اللواء ال… قاطعه محسن، وقد فتح فمه حتى برزت أسنانه كفأرٍ جائع، وقال:
-ألبس الشرشف والعباية وأي شيء ..أهم شيء ..أهرب
ضحك السفير وقال:
-وسأقول عنك حرم السفير..
-قل ما تريد ..أهم شيء..نتخارج.

وبالفعل فقد بدأ السفير في البحثِ عن طائرة هيلوكبتر، وكأنه الحاكم الفعلي لليمن، فيتصلُ بالرئاسة، ويتصلُ بالقواتِ الجوية، وينجحُ أخيرًا في إيجاد طائرة ولكنها لن تتوفر إلا في الصباح…

دخلَ السفير فوجدَ محسن يرتجفُ كعصفور بلله المطر، وقال له:
-لقد وجدنا طائرة وستنقلك مع مرافقيك في الصباح بحجة أنكم عائلة السفير..
أمسكَ محسن بكف السفير وقبَّلها كمتسول محترف في حارة البعرارة..

دخل السفير إلى منزله وجاء بكيس كبير، وأخرج كل ما فيه من ملابس وعبايات وأحذية نسائية، وطلب من اللواء أن يجرب ما يناسبُ مقاسه..جرَّب محسن، فيما السفير يملأ الصالةَ ضحكًا وسخرية..ولكن الملابس والأحذية جميعها قصيرة وصغيرة..

وبعدها أجرى السفير اتصالاته، وبعد دقائق أقبلَ عبدو المخلافي وبرفقته ثلاث نساء، ومعه كرتون كبير؛بداخله مائة عباية وملحقاتها، وكرتون آخر ممتلئ بخمسين زوج من الأحذية النسائية بمقاساتٍ مختلفة..وبدأ عبدو يُلبس اللواء العباية تلو العباية حتى استقر الرأي على عباية سوداء بخيوط زرقاء، كانت رائعة، وبدا بها اللواء عروسًا في ليلةِ زفاف، تم إكمال المهمه بوضع حمالة الصدر، وقبل ربط البرقع؛ أقبلت إحدى النساء، ورتبت الرموش، وركَّبت لهما رموشًا صناعية، ووضعت بعض الماكياج والكحل حول العينين..
وتم ربط البرقع، واختار اللواء حذاء بنصف كعب، لونه أزرق، وقامَ يؤدي خطوات البروفة ذهابًا وإيابًا في الصالة، بينما السفير يمسك بيده ويتضاحك ويقول:
-ألف صلاة وسلام عليك يا نبي الله محمد!
تأمَّل السفير حرمه المصون، فوجدَ اليدين والقدمين، لا يتناسبان مع مقامه الكبير، فوجَّه إحدى السيدات بوضع النقش والحنا بأسرع وقت..

وانتقل السفير إلى الصالة الأخرى حيث التسعة المرافقين، وقد لبسوا جميعًا العبايات المناسبة، فقام بوضع اللمسات الأخيرة لبقية العائلة، وكان من توصياته أن يلبسن جميعًا شرابًا في أقدامهن، وأن يتم نقش أيديهن جميعًا، إلا واحدةً منهن فعليها أن تلبس قفازات سوداء..لم يخبرنا السفير بأسماء مرافقات حرمه المصون، لكنا عرفناهن بعد وصولهن إلى غرف فنادق الرياض ..

وبعد ساعات تم نقل حرم السفير وبقية العائلة في سياراتٍ مصفحة إلى الرئاسة، استوقفتهم إحدى النقاط فما إن شاهدوا النساء المنقبات حتى اعتذروا، وسمحوا لهم بالمرور دون تفتيش..
وفي الرئاسة استقرت العائلة في إحدى الصالات، والسفير يتنقل من هنا إلى هناك.. ونامت حرم السفير وعلى مقربة منها نامت الوصيفات التسع، كان النوم متقطعًا، والكثير منهنَّ أقسمن أنهن لم يغمض لهن جفن طوال الليل، وكذلك أقسم السفير…

في السادسة صباحًا يتصل السفير بعملائه في الجوية، فيُخبرونه أن الحوثيين رفضوا تحرك أي طائرة من المطار، لكن العميل يؤكدُ له أنه سيُرسل طائرةً أخرى من العند…

في التاسعة والنصف صباحًا..
جاءت الطائرة .. وركبت حرم السفير، وأخواتها وبناتها، وودعهن السفير بحرارة، وما إن ارتفعت الطائرة 300 متر في الهواء حتى شعر السفير بفرحٍ غامر، وسعادةٍ لا توصَف.

شكرًا للسفير السعودي على نشر قصة سفر حرمه المصون، وسننتظر على أحر من الجمر قصة سفر حرم السفير الإماراتي، وبقية السفراء الكرام، في عهد حكم السفارات البائد…

 

مقالات ذات صلة